فجر عرض المسلسل الديني الخاص بسيرة الصحابي الجليل عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشيدين، على بعض القنوات التلفزيونية العربية نقاشا حاد وجدالا بين المناصرين لتناول حياة الصحابة صوتا وصورة، وبين المعارضين لهذا التعاطي الإبداعي مع الصحابة وآل البيت. جدل رمضان هذا العام، يعيد إلى الأذهان مسلسل المنع الذي أطلقه شيوخ الأزهر منذ عقود طويلة والذي يرفعونه سوطا في كل مرة يقع فيها التماس بين الديني والفني خاصة في تناول رموز الدين الإسلامي. الرقيب يشهر مقص منعه سيف الرقيب وصك المنع يجد دائما مبرره لكي ُيستل في كل مرة يقع فيها التماس بين ماهو ديني أخلاقي وإبداعي أثناء تشخيص المبدعين لبعض الشخصيات الدينية التي أثرت التاريخ العربي الإسلامي. هو منع يجد له من ينظّر له ويُشرعن مبرراته عندما يتعلق الأمر بخوض المبدع في بعض أمور الدين والعقيدة وحتى الثوابت الأخلاقية. هي حكايات كثيرة، متعددة وتتكرر، في كل مرة يتناول فيها المبدعون بعضا من أمور الناس الدينية والدنيوية. فمعادلة المنع في مقابل الإبداع، جدلية ستستمر ولن تنتهي مادام أن الخلق والإبداع يصران على الخوض في كل ما يهم عالم الناس هذا في مختلف جوانبه. خاصة ما همّ الجانب الديني العقائدي الذي يشكل عصب الحياة بالنسبة للمجتمعات الشرقية المعروفة بمحافظتها. فالحجب والتوقيف لمجموعة من الإبداعات السينمائية والتلفزيونية يكاد يختفي عن القاموس طيلة أشهر السنة، لكنه يصر على البروز والإعلان عن نفسه كلما اقترب موعد شهر رمضان. ومبعث ارتفاع وتيرة الحديث عن مقص الرقيب وسلطة المنع تفرضها دائما قدسية الشهر الفضيل والذي ينجذب خلاله المتلقي العربي إلى التلفزيون لكي يتابع ماجادت به مخيلة المبدعين العرب من المحيط إلى الخليج. وهي كذلك لأن الكثير من المبدعين، وبدافع حسن النية في التقرب أكثر من تاريخ الشعوب العربية والإسلامية عبر إبراز مجد هذه الأمة والتي عرفت رجالات وأحداث كانت الحجر الأساس والمنطلق الذي بنيت عليه الحضارة الإسلامية يعتبرون أن بهارات التجسيد الحقيقي لهذه الشخصيات التي تلفها القدسية هي التي تمنح لأعمالهم ما يكفي من التشويق والمتابعة. لقد خص شهر رمضان، على غير باقي أشهر السنة بميزة خاصة، هي أنه أصبح ينعت بشهر المسلسلات وشهر الفرجة التلفزيونية بامتياز في المجتمعات العربية. وهو ما يجعل منه الموعد الرسمي والأمثل لميادين التباري والجدال والنقاش الفقهي والعلمي بين الكثير من المتدخلين في الحقلين الديني والإبداعي. وقد ظهرت منذ سنوات فتاوى وقرارات بالمنع في حق العديد من الأعمال التلفزيونية التي تم التحفظ عليها بل والهجوم عليها لأنها تمس في مقتل قدسية الكثير من الثوابت الفقهية والدينية والروحية للمجتمعات الإسلامية. حملة سدنة الدين على الفاروق هذا العام لم يخرج عن القاعدة ولم يكن الاستثناء، إذ طفت على السطح منذ أشهر نقاشات كثيرة وأثير جدل كبير حول مسلسل عمر الذي يسرد سيرة الصحابي الجليل عمر ابن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. إذ تعالت أصوات كثيرة من مؤسسات دينية خليجية ومصرية تدعو كلها إلى منع عرض عمر، وذلك على خلفية إقدام المخرج حاتم علي على شق عصا فتوى تجسيد شخصية عمر ابن الخطاب صوتا وصورة في أول سابقة من نوعها في العالم العربي الإسلامي، وذلك بعد أن اقتصر التعاطي مع شخصيات الصحابة عن طريق الرمز إليها من دون إظهارها جسدا وصوتا على شاشة التلفزيون. حكاية منع عمر انطلقت حتى قبل عرض المسلسل. وهي الحملة التي لا تزال متواصلة على الرغم من بث المسلسل على شاشة العديد من القنوات العربية. مسلسل عمر حلقة فقط من سلسلة حلقات المنع والتوقيف التي طالت العديد من الأعمال العربية خلال السنوات الماضية. إذ تعود أول حكاية منع وتوقيف الأعمال التي تصور سير الصحابة وآل البيت إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي. وتحديدا مع أيقونة السينما العربية والعالمية شريط «الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد. ذلك أن الرسالة كان أول عمل عربي يعيش محنة المنع، بعد أن تجرأ المخرج السوري العقاد آنذاك على إظهار شخصية الصحابي حمزة ابن عبد المطلب عم الرسول (ص) صوتا وصورة من خلال الدور الذي أسند إلى الفنان الكبير عبدالله غيث. حيث أصدر شيوخ جامع الأزهر بمصر فتوى بمنع عرض الرسالة في مصر وبعض الدول العربية. غير أن هذا المنع لم يزد إلا في انتشار العمل والذي جاب الدنيا كلها ووصل إلى العالمية. خاصة بعد أن أدى الممثل العالمي أنطوني كوين دور حمزة في النسخة الإنجليزية إلى جانب إرين باباس وغيرها من الوجوه من بلدان عربية كثيرة بما فيها المغرب. أبعاد وحدود فتاوى المنع لائحة المنع طويلة ولن تنتهي مادام أن هناك خط التماس بين الدين والإبداع لم يجد بعد الصيغة الناجعة التي تمنح المبدعين مساحات كافية للتواصل مع التاريخ العربي الإسلامي في كل مناحيه. تواصل يفرضه الواقع الثقافي والاجتماعي الذي تحياه الشعوب العربية اليوم، والذي أصبح بالفعل في حاجة لبعث الرموز الإسلامية عبر وسائل أكثر انتشارا، كما قال مخرج مسلسل «عمر» حاتم علي والتي يشكل التلفزيون أحد أهم عوامل التأثير في عصرنا الحالي. وهو ما ذهب إليه الناقد الفني المصري طارق الشناوي الذي شدد في تصريحات له أن على المؤسسة الدينية إعادة التفكير في التطورات الحاصلة على جميع الأصعدة، بما في ذلك تلك التي تفرض ظهور هذه الشخصيات في الأعمال الدرامية الدينية والتاريخية. أما ثناء هاشم الأستاذة بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، فترى أن إظهار هذه الشخصيات في المسلسلات من شأنه نزع القداسة عنها، ولا قدسية (للبشر) في الإسلام، ومن ثم يتيح مناقشة هذه الشخصيات ودورها الديني والتاريخي، مع ما يعنيه ذلك من تطور للفكر وإعمال للعقل. فهل سُيزحزح المجمع الفقهي في الأزهر عن رأيه ويظهر بعض المرونة في مثل هكذا أعمال بنية تطوير آليات تدبيره الحقل الديني في تعاطيه مع موضوع تجسد الصحابة؟ أم أننا سننتظر أشواطا أخرى طويلة في علاقة السلطة الدينية بحقل الإبداع الذي لاينفك كل يوم يتجرأ على المحظورات من الفتاوي؟ عمر ليس إلا البداية إذن، ويتوقع أن يلقى أبوبكر الصديق نفس التجسيد التلفزيوني، ومعه عثمان ابن عفان وعلي ابن أبي طالب، وغيرهم من صروح الدين الإسلامي. ومن يدري، فقد يأخذ موضوع التجسيد التلفزيوني هذا أبعادا أكبر قد تصل عتبة تصوير سيد الخلق محمد (ص)، خاصة بعد أن ترددت أخبار حول عزم إيران إنتاج مسلسل حول خاتم الأنبياء والمرسلين. وصاية الأزهر على الفن حكاية بدأت عام 1926 السنوات الماضية شهدت بدورها وخلال شهر الصيام عدة فتاوى وحملات استل خلالها سيف المنع على رقاب العديد من الأعمال التلفزيونية. فقد تعرض مسلسل «مريم المقدسة» الإيراني إلى المنع في القنوات التلفزيونية العربية، إلا من قناة المنار الشيعية اللبنانية التي بثت العمل الذي حظي بمتابعة مهمة من قبل المشاهد العربي اعتبارا للقيمة الجمالية الفنية للمسلسل وأيضا للحقائق الدينية والتاريخية التي اتسمت بها سيرة مريم بنت النبي عمران منذ ولادتها حتى لحظة إنجابها للنبي عيسى عليه السلام. وقد اعتبر العديد من فقهاء الدين، خاصة من الأزهر، أن تجسيد هذه الشخصية يتعارض وقدسية مريم والدة المسيح عيسى عليه السلام. النبي يوسف وقصة حياته على التلفزيون لم تكن بأحسن حال من الأعمال التي سبقته. إذ منع الأزهر عرض هذا العمل الإيراني الذي يسرد قصة النبي يوسف عليه السلام قبل الولادة إلى لقائه مع والده النبي يعقوب عليه السلام على قناة «ميلودي». فيما بثته قنوات «الكوثر» و«المنار» و«البداية» الشيعية. وقد ربط مجمع البحوث الإسلامية، وهو أعلى هيئة في مؤسسة الأزهر، بين قرار منعه بالفتوى التي تحظر تجسيد الأنبياء والصحابة وآل البيت نظرا للقدسية التي يتمتعون بها. فيما اعتبر العديد من النقاد على أن مسلسل النبي يوسف ظاهرة فنية نادرة تكمن قوته في متقمص دور النبي يوسف وفي إخراجه إضافة إلى روعة القصة القرآنية التي فيها من كل شيء بما في ذلك الغراميات التي استهوت المتتبعات. نفس المنع طال مسلسل الصحابي «خالد بن الوليد». إذ عرف العمل جدلا كبيرا قبل بثه وبعده. حيث أصدر الأزهر فتواه بمنع عرضه في مصر على الرغم من أن هذا لم يمنع القنوات العربية الأخرى من شراء حقوق المسلسل والتي لا يلزم رأيها باقي الدول العربية. وقد أوخذ على المسلسل كونه يتعرض لحياة سيف الله المسلول الصحابي خالد ابن الوليد وبعض الصحابة الآخرين والذين تم تجسيدهم كحمزة بن عبدالمطلب، والصحابيان أبو عبيدة الجراح وعبدالله ابن رواحة. مسلسل الحسن والحسين الذي بث السنة الماضية على قنوات عربية كثيرة، أثار بدوره جدلا واسعا وذلك بعد أن تم تصوير سبطي الرسول (ص) الحسن والحسين صوتا وصورة. ويعد هذا العمل أول تجربة درامية تصور آل البيت. وكان موضوع العمل طرح على الأزهر لإبداء الرأي فيه قبل الشروع في إنجازه. وهو ما رد عليه الأزهر بالرفض المطلق لهذا العمل لأنه يتعارض وفتوى تجسيد الصحابة وآل البيت. فيما أجازت جهات فقهية وعلمية أخرى تصوير العمل الذي يسلط الضوء على مرحلة مهمة من التاريخ الإسلامي والتي عرفت بالفتنة الكبرى التي تعتبر من أهم الأحداث التي أثرت في مسار التاريخ العربي الاسلامي عندما احتج أهل مصر والعراق خصوصا على حكم الولاة الذين عينهم ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان نتيجة فسادهم ونهب ثروات البلاد والضرائب التي قاموا بفرضها، وأدت هذه الفتنة إلى تمزيق المسلمين إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي السنة والشيعة والخوارج. حكاية الأزهر الشريف مع المنع حكاية قديمة جديدة تبرز في كل مرة لتعطي الدليل على أن صراع المواقف لن يتوقف وأنه مستمر باستمرار الخلق والإبداع في النبش في أبطال فجر الإسلام. وتعود أول حادثة اصطدام عنيفة للأزهر مع المبدعين المتناولين للتاريخ الإسلامي إلى سنة 1926 أي قبل ظهور التلفزيون بسنوات وقبل أن تنطق السينما بسنة تقريبا. إذ تم منع الفنان المصري الكبير يوسف وهبي من تجسيد شخصية الرسول ( ص) في فيلم روائي. وفي سنة 1979 تعرض فيلم «القادسية» للمخرج صلاح أبوسيف للمنع من العرض أمام الجمهور أيضامن قبل لجنة من الأهر بحجة تناوله لشخصية الصحابي سعد ابن أبي وقاص. المخرج يوسف شاهين اكتوى هو الآخر بنيران قرارات المنع سنة 1992، حين رفض الأزهر فيلمه «المهاجر» الذي جسد شخصية النبي يوسف عليه السلام. ما اضطر شاهين إلى الرضوخ لضغوطات الجامع الفقهي ليعيد كتابة سيناريو شريطه، وخاصة تغيير اسم الفيلم من «يوسف وإخوانه» إلى المهاجر. هذا بالإضافة إلى بعض الأعمال الأخرى التي طالها المنع هي الأخرى من قبل شيوخ الأزهر كرفضه تحويل روايتي «الحسين ثائرا» والحسين شهيدا» للراحل عبدالرحمن الشرقاوي إلى أعمال درامية. ومسلسل «رجل الأقدار» الذي أثير حوله الجدل حين رصد حياة عمرو ابن العاص، وأيضا مسلسل «الأسباط» الذي تناول أهم الأحداث التي عرفتها الدولة الإسلامية من القرن الأول الهجري أي بعد ظهور الدولة الأموية… إعداد حسن بن جوا