بعد أكثر من تسعين عاما على فتوى الأزهر عام 1926 بمنع تصوير الأنبياء والصحابة على الشاشات الكبيرة في حينها، وانسحاب هذه الفتاوى على الشاشة الصغيرة منذ الخمسينيات، تظهر هذه الشخصيات على الشاشة الصغيرة في مسلسل "عمر" بموافقة طائفة من علماء الدين، ورغم رفض آخرين. ويعيد عرض المسلسل طرح علاقة الدراما التاريخية بالخصوصيات الدينية. ويعتبر هذا أول ظهور عربي لشخصيات الصحابة على الشاشة الصغيرة، بعدما ظهرت قبل سنوات على الشاشات العربية مدبلجة عن الدراما الإيرانية، وذلك بعد سقوط احتكار الدولة لوسائل الإعلام وظهور القنوات الفضائية الخاصة التي تجاوزت في مواقفها الشاشات الرسمية، وأيضا ظهور آراء دينية أخرى أكثر انفتاحا أجازت تجسيد الصحابة في أعمال درامية. جدل قديم ويعد فيلم "الرسالة" الذي أنتج عام 1977 للمخرج الراحل مصطفى العقاد، أول الأعمال الكبيرة التي أثارت خلافا حول تجسيد الصحابة. ومثل الفيلم بمقاييس تلك الأيام، إنتاجا سينمائيا ضخما وشارك في نسخته الإنجليزية الممثل العالمي أنطوني كوين والممثلة إيرين باباس، وعدد ضخم من الممثلين العرب في نسخته العربية. وأدى تجسيد شخصيتي حمزة بن عبد المطلب وبلال بن رباح في الفيلم إلى رفضه من قبل مؤسسة الأزهر ومراجع دينية، ومنع عرضه في عدد من الدول العربية بينها مصر حتى فترة قريبة، رغم أن الخلفاء الراشدين لم تظهر صورهم ولا أصواتهم أو حتى ظلالهم في الفيلم، الذي حقق نجاحا ضخما في الغرب وترجم إلى 12 لغة. الدراما الإيرانية سبق أن تجاوزت فتوى الأزهر الذي منع عام 1926 تصوير فيلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم والتزمت بها كل مؤسسات الإفتاء في العالم الاسلامي بمنع ظهور الرسل في التلفزيونات وفي الفن التشكيلي والمسرح وغيره. وقدمت الدراما الإيرانية مجموعة من المسلسلات بينها مسلسل عن النبي يوسف عليه السلام، وآخر عن السيدة مريم العذراء، وثالث عن الحسن والحسين. وتستعد السينما الإيرانية الآن لإطلاق أول فيلم عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسه في العام المقبل. جدل الديني والدرامي حصل أيضا مع أعمال فنية أخرى بينها مسلسل "الحسن والحسين ومعاوية" الذي بث العام الماضي، واعتمد فيه المخرج عبد الباري أبو الخير على وجوه جديدة خاصة في دور الحسن والحسين. وتعرض المسلسل لانتقادات واسعة ودعوات لوقف عرضه، رغم إجازته من قبل ثلة من علماء الدين. كما حصل ذلك مع مسلسل خالد بن الوليد الذي أدى دوره الفنان السوري باسم ياخور. وتأتي الانتقادات الموجهة لمسلسل "عمر" رغم أنه يستند في نصه التاريخي إلى مراجعة مرجعيات دينية أبرزها الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة وعبد الوهاب الطريري وعلي الصلابي وسعد مطر العتيبي وأكرم ضياء العمري، وهو ما تحمله مقدمة المسلسل نفسه. حملة رفض الاختلاف الدائر حاليا حول ظهور شخصيات الصحابة في مسلسل "عمر" داخل المؤسسات الرسمية الدينية وخارجها عكس نفسه على الرأي العام ما بين مؤيد ورافض، وحملت صفحات الإنترنت جدالات واسعة حول ذلك. وظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي عدة حملات لمقاطعة المسلسل المذكور، ففي موقع "تويتر" انتشرت على صفحات الإنترنت حملات لمقاطعة المسلسل، منها حملة "أتعهد" الإماراتية و"أوقفوا مسلسل عمر بن الخطاب"، و"لن أشاهد مسلسل عمر بن الخطاب"، إضافة إلى عشرات "المجموعات" على موقع الفيسبوك الداعية إلى وقف عرض المسلسل. المخرج حاتم حاول عبر الاعتماد على الوجه السورى الجديد سامر إسماعيل لأداء دور الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الممثل "النقي فنيا" والذي لم يسبق له الظهور في أي عمل، تجاوز أية إشكالات حول التاريخ الفني والشخصي للممثل، ومن ثم تجنب انتقادات وجهت لأعمال أخرى. ورغم أنه أمن انتقادات هذه النقطة بالذات، فإن الجدل تواصل حول مدى مقدرة ممثل مبتدئ عمليا على أداء دور بهذه الضخامة لشخصية بهذا الوزن الديني والتاريخي والإنساني، ويراه البعض أكبر دور يسند لممثل في تاريخ الدراما والسينما العربية. موجة الرفض وصلت إلى المحاكم، حيث أقام المحامي المصري حامد سالم دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري، مطالبا فيها بوقف عرض المسلسل بحجة أنه لا يجوز شرعا تجسيد شخصية الصحابة في المسلسلات لما فيه من مساس بهيبتهم، كما يمثل تعديا جسيما على الثوابت الإسلامية. كما أقام المحامي البحريني دويم المويزري دعوى قضائية مماثلة. موقف الأزهر موقف الأزهر بقي على ثباته بمنع تجسيد الصحابة في الأعمال الدرامية، وهو الموقف الذي لم يتزحزح عنه السنة الماضية عندما رفض أيضا مسلسل "الحسن والحسين ومعاوية" رغم إجازته من قبل مجموعة من العلماء. كما دعا الداعية الإسلامي محمد الهبدان في برنامج على إحدى الفضائيات إلى منع عرض المسلسل. كما انتقد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء عرض المسلسل، وأكد أن الأشخاص الذين تبنوا فكرة تجسيد شخصيات الصحابة والخلفاء الراشدين مخطئون، فلو أرادوا الحق لترجموا سيرة الفاروق ونشروها. وأضاف أن هذه الأفلام والمسلسلات لا تجلب ولا تقصد خيراً، ومهما قال من أعدها ممن يدعون التنوير الفكري ومهما برروا فهم على خطأ فيما سلكوا، وهذه سير ملأت كتب السنة فلنقرأها ولنترجمها، ولنتجنب هذه الطرق الملتوية التي مآلها التجريح في هؤلاء الرموز. من جانبه أبدى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس رفضه مطالبا القائمين على الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائية أن يراعوا حرمة هذا الشهر الفضيل، وقال في إحدى خطب الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام "لا تخدشوا روحانيات الشهر بما لا يليق من البرامج والمشاهد والأفلام، ولا سيما ما يمس سيد الأنام وآله وصحابته الكرام". وفي الجزائر التي اشترى تلفزيونها حقوق بث مسلسل "عمر"، نشطت الدعوات لحمله على وقف البث، لكن إدارة التلفزيون تؤكد أنها حصلت على إجازة شرعية من وزارة الشؤون الدينية تسمح بعرض العمل الدرامي. بعد فني انقسام جمهور العلماء والمرجعيات الدينية بين رافض لتجسيد الصحابة في الأعمال الفنية، وإدخالهم في "مختبر" التصورات الفنية الدرامية التي غالبا ما تميل إلى التسطيح على حساب العمق، رغم الجماهيرية الواسعة وموافقة جمهور من العلماء على هذا الأمر، جعل رجال الفن يعطون أعمالهم التاريخية بعدا آخر وجرأة أكبر. ويرى الناقد الفني المصري طارق الشناوي أن المؤسسة الدينية كان لا بد لها أن "تعيد التفكير في التطورات الحاصلة على جميع الأصعدة، بما في ذلك تلك التي تفرض ظهور هذه الشخصيات في الأعمال الدرامية الدينية والتاريخية". ويرى الشناوي أن "تقديم هذه الشخصيات لأول مرة من إنتاج شركة سعودية يعتبر هزيمة للمؤسسات الدينية الرسمية، لأن الأزهر ودار الإفتاء السعودية وكثيرا من علماء الفتاوى ما زالوا يقفون نفس الموقف، في حين تجاوزه كثير من العلماء الآخرين". من جهتها ترى الأستاذة في المعهد العالي للسينما ثناء هاشم أن إظهار هذه الشخصيات في المسلسلات من شأنه "نزع القداسة عنها، ولا قدسية (للبشر) في الإسلام، ومن ثم يتيح مناقشة هذه الشخصيات ودورها الديني والتاريخي، مع ما يعنيه ذلك من تطور للفكر وإعمال للعقل".