تبقى أسوأ الوصايات على العقل، والتي تعمل على تعطيل مقولاته الأساسية، وإفراغه من مضمون دوره التنويري، وصايتي كل من الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، فحين يعملان معا، وجنبا إلى جنب، يبدأ العقل – لرفضه كلا الاستبدادين – بتلقي ضربات مميتة، وإذ هما يعملان على الاتحاد، وينهجان نهج التحالف ضده، لا يبقى له إلا إعلان الاستقالة من حقلي الدين والسياسة، بل وإعلان استقالته من كل الحقول المعرفية والعملية جميعا، ليسود منطق رديء، وقراءة مقلوبة، وفهم محور … لأننا في اتحاد ضد الغائب الأكبر؛ العقل . نعتبر أن النخبة، واجهة المجتمع، والمعبرة عن تركيباته الثقافية والمعرفية، وحين يتوفر الاستبدادان الديني والسياسي، ويتعوسجان في شرايين المجتمع … هي الممثلة لضيق هذه الشرايين واختناقها، وهي المتكلمة باسم الاستبدادين معا . لنر في أحد ممثلي هذين الاستبدادين، اللذين يظهران، وبشكل جلي، غياب آليات العقل في الممارسة السياسية والدينية عندنا. على المستوى السياسي يتمظهر حزب الاستقلال العائلي – على سبيل المثال – وليس بسبب الاختلاف في الإيديولوجيا – في موقع الممارسة السياسية اللاعقلية، لأن كل ماهو عائلي – فئوي – نخبوي لا يكون عقليا، خصوصا في الحقل السياسي الذي يفرض الإشراك والتشارك …. وما المؤتمر الأخير للحزب إلا عنوان عن ضيق العقل في ممارسته السياسة، وفي ممارسة أعضائه، وهو – بعد ريادة تاريخية للسياسة في المغرب – يقوم بتجميع نتائج منطق التسيير العائلي المنغلق، وهي نتائج كارثية، أقواها كانت من توقيع الأمين العام السابق عباس الفاسي . استبداد فئة سياسيا في الحزب ليس عنوانه دائما عقاب الناخب لهذا الحزب وتخلي القواعد عنه والمتعاطفين معه (هذا العقاب لا يكون إلا ضمن نسق سياسي منفتح وعقلاني بشكل عام شرطه الأساسي هو الديمقراطية، وهذا النسق مفقود عندنا …)، وحصول الأحزاب على مراتب متقدمة لا يعني إطلاقا أنها أحزاب ديمقراطية (والديمقراطية داخل الحزب تعني الاشتغال بآليات العقل وشروطه المنتجة له)، بل إن العنوان الأبرز لهذا الاستبداد هو الانفجار الداخلي للحزب نفسه، كما حدث لحزب الاستقلال ومنهجيته التعادلية في مؤتمره الأخير، فالصراع يحتدم بين الفئة المستبِدة داخل الحزب وبين من يؤثثون سياسيته لا غير، وهذا الصراع ليس من أجل القطع مع الاستبداد الحزبي في صورته الضيقة والعائلية والنخبوية، بقدر ماهو رغبة في تغيير صورة النخبة داخل الحزب بصورة آخرى؛ فصراع حميد شباط وحوارييه النقابيين مع عائلة الفاسي في الحزب، ليس بالضرورة مظهر من مظاهر الاشتغال السياسي العقلاني، وإن كانت التبريرات التي يقدمها أنصار شباط لتمرده تبدو عقلية إلى أبعد الحدود، لكنها لوحدها لا تؤسس لنسق سياسي آخر في الحزب، لأن الدوافع المحركة براغماتية وليست عقلية أبدا . حزب الاستقلال يشكل قمة الدروشة السياسية، فهو زاوية سياسية كأغلب الأحزاب التي لا تمنح العضوية أبدا للعقل، وتمنحها للمجيدين لفروض الطاعة والولاء أكثر . المثال الثاني يخص الاستبداد الديني، هذا الاستبداد الذي يقوم على فكرة تمييع مقولات العقل المتوافق عليها، وإحلال هذه المقولات محل الهوامش، والتي إن وافقت لغة خطاب الفكر الديني (الخطاب اللاهوتي كتميز له عن الخطاب الديني ) اللاعقلية استعان بها، وإن لم توافق هذه اللغة رماها بالكفر . المثال الخاص بالاستبداد الديني سنجسده في الخطباء، ولا أعرف إن كان مقارنة خطباء التفسير الديني بسفسطائيي العصر الهيليني صحيحا، لأن السفسطائيين قدموا نسقا فكريا متكاملا وإن كان براغماتيا، إضافة إلى أنهم لم يسعوا إلى أي نوع من أنواع الاستبداد لأنهم شكوا في حقيقته كمفهوم كما شكوا في حقيقة مفاهيم ومعان كثيرة . لماذا اختيار الخطباء إذن ؟ ببساطة، لأن ما باتوا يقولونه في منابرهم، ومن وراء كاميراتهم المستوردة – والتي يعتبرون صناعها قائمين في دار الكفر – اتخذ طابع الاصطدام التام والمباشر مع العقل، واكتسى طابع الرغبة في فرض ما يؤمنون به على اعتبار أنه الحقيقة المطلقة . يظهر التغييب المطلق في الاستبداد الديني لمنهجية العقل بشكل واضح وجلي، فأعدى شيء عند الخطيب المسكون برغبة استبدادية في التأثير على المتلقي أن يخضع مقدماته الخطابية لمنطق عقلي، أكثر ما يستطيع أن يفعله إزاءها هو أنه يبررها عاطفيا كي لا يصطدم مع لا عقليتها، وغالبا ما يستدعي الضمير الجنسي باعتباره الراعي الدائم للأخلاق في مستواها البسيط؛ الدعوة إلى تدنيس أخلاق المصطافين في شواطئ البلاد، اعتبار التعبير عن رأي شخصي في الحرية الجنسية هو من قبيل الديوثية … وغيرها، وهي دعوات تمتح من معين الأخلاقية الجنسية التي تقيم الدينا ولا تقعدها … وهنا الرغبة تبدو جامحة لتحرك الاستبداد الديني الذي يهاجم بشراسة وعنف لاعقليين الآراء المخالفة، في حين أن الخطاب الديني حين يخلو من الرغبة في الاستبداد سيكون مجرد رأي آخر ضمن آراء متعددة . المظهر الأسوأ للاستبداد – وفي مثال معبر – يتجلى حين يكون الخطيب -السياسي راغبا في التقاط ثمار الربيع العربي ليحارب بها أعداء منفعته الخاصة، ويصيح، ضمن من من يصيحون، بأن الشعب يريد … وحين خلواته، وزلاته، وحماساته، يهدم كل ما يريده الشعب لصالح ما يريده هو، لأنه لم يبرر عقليا ما يريده الشعب كي يؤمن به إيمانا مطلقا، وإنما انجر وراء الموجة – الموضة، والعقل بلا موجات فيه، ولا موضات عنده … وهذا ما غيبه هؤلاء بجهل منهم أو بمعرفة، وهم بلوانا إلى أن يعود العقل عن استقالته .