محمد حسنين هيكل: الحلقة الخامسة كان الرئيس «مبارك» كما بدا لى وقد طالت جلستنا حتى تلك اللحظة أكثر من ساعتين متشوقا على نحو ما ليسمع، وعندما طلب تأجيل موعد معه فى الساعة العاشرة والنصف، فقد أدركت أننا أمام لقاء سوف يطول، وحتى عندما عرضت الاستئذان كى لا أعطل ارتباطات سابقة له، على أن نعود بعد ذلك ونتقابل فى مناقشة أخرى كان إصراره «أننا الآن هنا إلا إذا كنت «زهقت»، وأكدت أننى لم «أزهق»، ولكن خشيتى على وقته، ولعله أراد طمأنتى وربما إغرائى، فإذا هو يسألنى: ألا تريد أن تدخن سيجارا أنا أعرف أنك من مدخنى السيجار، وأنا مثلك. وأبديت الدهشة، فقال إنه لا يظهر فى الصور بالسيجار لكى يتجنب «القرشنة» ! لكنه يدخن سيجارا واحدا كل يوم، ثم ضغط على جرس يطلب صندوق السيجار. وجاء الصندوق مع أحد الضباط، وطلب «مبارك» تقديمه إلى بالإشارة، وأخذت منه سيجارا، وأخذ هو سيجارا. ثم سألنى وهو يرانى أشعل عود كبريت: «سيجار كويس»؟!! ولم أقل شيئا، ويظهر أنه أحس أننى لا أشاركه الرأى. وقلت: «بكل احترام الحقيقة أنه مقبول». وقال باستنكار: «إيه؟! هذا «روميو وچولييت». وقلت: «الشركة التى تنتج سيجار «روميو وچولييت» تنتج أكثر من 75 نوعا بعلامتها، وكل نوع منها مختلف عن الآخر». وسأل «مبارك» باهتمام: «أُمال إيه بقى السيجار الكويس؟!». وقلت «بإذنك فى سيارتى علبة صغيرة فيها سيجار، ولم أدخل بها لأنى لم أتصور أنك تدخن، وإذا وافقت نطلبه». وجاءت العلبة، وعرضت على الرئيس «مبارك» أن يتفضل، فأخذ واحدا منها وأشعله، وكانت ملاحظته: والله أحسن فعلا «غريبة جدا»!! وقال وهو يستعيد الذكريات: «عندما كنا نتدرب فى الاتحاد السوڤييتى كطيارين، كنا نشترى هذا السيجار (الذى لم يعجبك!!) ونبعث به إلى قادة السلاح، وكانوا يعتبرون ذلك «فخفخة»!». ثم عاودته الذكريات فقال: أيام التدريب فى الاتحاد السوڤييتى كنا فى قاعدة جوية قرب «خاركوف»، وفى الإجازة ننزل إلى «موسكو»، وكنا نخفى الورقة «أم مائة دولار» تحت الشراب بعد أن نغطيها بقطعة من ورق التواليت، (أضاف أن ورق التواليت فى روسيا سميك وخشن مثل الخيش)، ثم نغيرها فى السوق السوداء عن طريق موظف فى مكتب الملحق العسكرى بمبلغ كبير من الروبلات، ونشترى علبا من هذا السيجار ونشحنها إلى قادة السلاح فى مصر. واستطرد: كان «الروبل» بالسعر الرسمى يساوى أكثر من دولار واحد، لكن السعر فى السوق السوداء كان 21 روبلا لكل دولار، فارق كبير، أضاف، «لكن الواد بتاع المكتب العسكرى كان جن». ●●● وعاد «مبارك» فجذب نفسا من السيجار الذى قدمته له، وقال: «فعلا لك حق هذا أحسن جدا»، ولكنهم (يقصد القادة الذين كان يرسل لهم السيجار) كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوڤييتى يأخذ سيجار كوبا مقابل السلاح، وقلت: «ذلك صحيح إلى حد ما، لكن أفضل أنواع السيجار الذى تنتجه كوبا كانت للتصدير بالعملة الصعبة إلى الغرب، وما تبقى من الدرجة الثالثة والرابعة يذهب إلى الاتحاد السوڤييتى ويشتريه الزوار بحُسن نية». ومد الرئيس «مبارك» يده إلى جرس، فدعى أحد الضباط، ثم التفت وقال: «محمد» بيه ملِّى عليه كل أنواع السيجار «الكويس»! وقلت ما مؤداه «أن لكل نوع من السيجار مذاقا، وأن كل مذاق مسألة اختيار، ولذلك فإنه من الصعب على مدخن أن يوصى غيره بنوع معين». وقال: معلش «ملِّيه» الأنواع «الأبهة» (المتميزة). وكان الضابط قد أسرع وجاء بورقة وقلم مستعدا لكى أمليه. وعاد إلى تجربة «السيجار» الذى قدمته له، وقال: «فعلا كويس جدا». ثم أضاف ضاحكا: يا أخى عاوزين نتعلم «العز». ولفت تعبير «العز» نظرى، وقلت: إنها ليست مسألة «عز»، ولكنها ظروف، وأنا شخصيا تعلمت تدخين السيجار (لسوء الحظ!) من رجلين: «نجيب الهلالى» (باشا)، ثم «فؤاد سراج الدين» (باشا)، كلاهما فى شبابى كانوا يقدمون لضيوفهم سيجارا عندما يشعلون لأنفسهم واحدا، وكنت أقبل الدعوة من باب «التجربة»، لكنى فيما بعد وقعت فى فخ «العادة»! وقال «مبارك»: «إنه لاحظ أن كل الرؤساء الأمريكان يدخنون سيجارا، ويمارسون لعبة الجولف، وأنت أيضا تلعب الجولف». وقلت بسرعة: «صحيح، ولكن بدون رئاسة». وبادر معلقا «والله أحسن يا أخى، الناس تتصور أن الرئاسة شىء عظيم، والحقيقة أنها «بلوة»!!». وقلت شيئا عن لعبة الجولف، وكيف أنها خير معلم للسياسة، وسألنى: كيف؟! وشرحت قدر ما أستطيع لعبة الجولف، وعلاقتها الوثيقة بالعلوم الاستراتيجية. واستمع إلىَّ باهتمام، ثم كان تعليقه: لكنها لعبة تأخذ وقتا، وأنا أفضل السرعة، ولذلك ألعب الإسكواش، وهى لعبة «موصوفة» للطيارين لشحن قدرتهم على ال Agility «الاستجابة السريعة». ●●● وهز «مبارك» رأسه بأسف وقال: «الآن لا وقت عندى حتى للإسكواش، لأن العبء ثقيل، وطلبات الناس لا تعرف الحدود». وتوقف «مبارك» وتساءل: الناس «كده ليه»؟ ليس عندهم إلا طلبات، يحفظون الحقوق وينسون الواجبات، والمصيبة أنهم جميعا «متخانقين»، وطلباتهم متعارضة، لا أعرف كيف تحمَّل الرئيس «جمال» أو الرئيس «أنور»؟! أنا شخصيا، ولم أقض فى الرئاسة إلا شهورا «طلعت روحى»!! أشار إلى تخبط القوى السياسية، وصخب الصحافة والصحفيين. وقال «مبارك» ويداه تسبقان إلى التعبير عما يريد قوله: «والله لو تعبت من كثرة الطلبات والخلافات، سوف أتركها لهم، وأسلم كل شىء للقوات المسلحة، وأترك الجميع «ياكلوا فى بعضهم»، وأخلِّص نفسي!!». (وكأنها كانت نبوءة مبكرة!!). ورجوته ألا يفكر على هذا النحو. ●●● وعاد «مبارك» مرة أخرى إلى خلافى مع الرئيس «السادات»، وكان فى واقع الأمر يفصح عن آرائه هو نفسه يقول: «السادات» كان على حق، لا أعرف لماذا اختار الرئيس «جمال» صداقة السوڤييت، وهم ناس «فَقْرى»، و«السادات» اختار الأمريكان وهم «المتريشين» (يقصد الأغنياء)، أكبر خطأ وقع فيه الرئيس «عبد الناصر» هو الخلاف مع أمريكا. استطرد: «وبعدين الرئيس «أنور» اختار السلام مع إسرائيل، والرئيس «جمال» كان لابد أن يعرف أنه لا فائدة من الحرب مع إسرائيل». واستطرد: «اليهود مسيطرين على الدنيا كلها، وأنت تعرف أكثر! اسمعها منى لا يستطيع أحد أن يختلف مع أمريكا». أنا أعرف أنك كنت من أنصار علاقات طيبة مع أمريكا فلماذا غيَّرت رأيك؟!!». وأجاب بنفسه على سؤاله: «يا عم»، الذى لا يعرف أن أمريكا هى أقوى قوة فى العالم «يعك». ولم أعلق على الكلمة، ففى أثناء الحديث سمعت من هذا النوع من الكلمات «عينات» متكررة. ورحت أشرح له رأيى: «أننى لا أختلف على أن أمريكا هى أقوى قوة فى العالم، ولكن المسألة هى: من أى موقع يتعامل الأطراف مع القوة الأمريكية» (استطردت وبشكل ما فقد قصدت أن يصل إليه ما كنت أقول)، إذا تعاملت مع أمريكا من منطق أنك تحتاج إليها، فلن تصل إلى شىء، وإذا تعاملت معها باعتبار أنها فى حاجة إليك، فقد تنجح». وقاطعنى: «تريد أن تقول لى إن أمريكا تحتاج إلينا طبعا لا نحن الذين نحتاج إليها!!». وقلت: «سيادة الرئيس.. إن الاحتياج لابد أن يكون متوازيا فى السياسة الدولية، وإذا جاء الاحتياج من طرف واحد إذن فهو عالة على غيره، وحتى إذا قبل هو، فإن الطرف الآخر لن يقبل، ببساطة لأن السياسة الدولية ليست جمعية خيرية!!». وأضفت: «أنه هنا أهمية موارد مصر الاستراتيچية، وقدرتها على إدارة هذه الموارد، وهنا مثلا أهمية انتماء مصر العربى. بمعنى إذا لم تكن مصر من هذه الأمة العربية بالطبيعة، فلابد أن تكون منها بالضرورة. بصراحة، أنا قومى عربى باقتناع، وبطبائع الأشياء فإن أحدا لا يستطيع الاقتناع إلا بما يتوافق مع مصلحة وطنه كما يقدرها وفضلا عن اقتناعى مبدأ بعروبة مصر، فإننى مقتنع بضرورة هذه العروبة أيضا لمصر، وكذلك لكل بلد عربى». ثم قلت: «فارق سيادة الرئيس بين أن تتعامل مع أمريكا كمصر فقط وهى بلد مثقل بحجم سكانه، محدود فى طاقة موارده، وبين أن تتعامل معها وهى وسط العالم العربى بكل قوة الأمة، وبجميع إمكانياتها ومواردها!! زدت على ذلك: هذا أيضا سيادة الرئيس هو ما يمكن أن يعطيك تأثيرا فى العالم الثالث كله وفى العالم الأوسع، إذا كنت وحدك، فالتأثير محدود، وإذا كنت وسط كتلة كبرى، إذن فهناك حساب آخر لتأثيرك». أضفت: «مذكرا الرئيس بحوار منشور لى مع «كيسنجر» يوم 7 نوفمبر 1973، فى أعقاب حرب أكتوبر، وكان هو الآخر قد اقترح عليَّ فى حينها أن أقتصر فى كلامى معه على ما يخص مصر وحدها، دون العالم العربى، وكان ردى عليه: أنه يريد أن ينزع أهم أوراقى التفاوضية من أول لحظة». وذكرت له كيف قلت ل«كيسنجر» وذلك منشور فى مقال لى فى «الأهرام» ذلك الوقت: دكتور «كيسنجر»: أنت أستاذ علوم سياسية، ولا يصح لى أن ألف وأدور معك أو ألعب «الاستغماية» Hide& seek، ولذلك أحدثك بصراحة: إذا اقتصر اهتمام مصر على قضاياها وحدها، فهى تحتاج لكم. إذا كانت مصر وسط أمتها العربية فأنتم تحتاجون لها. ولذلك دعنا من أول لحظة نتفق على أن اهتمامات مصر حتى بصرف النظر عن هويتها عربية، وهى تريد علاقات طيبة معكم، لكن عليكم أن تقدروا بأنفسكم أنكم أيضا فى حاجة إلى علاقات طيبة معها. (والحقيقة أننى قصدت أن أتوسع أمام «مبارك» فيما قلت ل «كيسنجر»، حتى تصل وجهة نظرى إليه، دون أن تتبدى «وعظية» إذا وجهتها مباشرة إليه). وقطع «مبارك» سياق كلامى قائلا: «هذا هو ما جلب لنا المشاكل، والحقيقة أننى مختلف معك وموافق مع الرئيس «السادات» فمشكلتنا أننا تحملنا بمشاكل غيرنا وليس مشاكل مصر وحدها، نقتصر عليها ونحلها بأسلوب عملى». وقلت: لا أظن أن هناك فى عزلة عن العالم العربى حلا لمشاكل مصر وحدها لا خيالى ولا عملى!! ●●● عاد الرئيس «مبارك» إلى حديث «أمريكا» قائلا: «أنت تنسى أنه لا أحد يستطيع مساعدتنا على إسرائيل إلا أمريكا، العرب شمتوا فينا سنة 1967، مع أنهم هم الذين ورَّطونا فى الحرب». وأضاف: «أنا أعرف «الأسد» (يقصد «حافظ الأسد») من أيام الطيران، وهو قال لى إن «حزب البعث» قصد توريط «عبد الناصر» فى حرب سنة 1967». واستطرد فى تفاصيل علاقته مع «حافظ الأسد». وقلت: «إننى معه فى أن نظما بعينها هنا وهناك حاولت مرات توريط «عبد الناصر»، ثم رُحت أشرح له بعض ظروف القرار السياسى سنة 1967، وضمنه وبصرف النظر عن التربص الخارجى أن القرار المصرى وقع فى أخطاء لم يكن هناك مبرر لها، أخطرها قرار الانسحاب من سيناء بكل القوات فى ليلة واحدة (7 يونيو 1967)». وأخذنا هذا الحديث إلى كلام إلى تفاصيل متشعبة عن ظروف وملابسات سنة 1967، وحكى لى أنه كان مع سرب القاذفات المتمركزة فى مطار «بنى سويف»، وقال إنه قرأ التحقيقات التى جرت عن تلك الحرب، لأن الرئيس «السادات» عينه رئيسا للجنة كتابة التاريخ عندما كان نائبا له، وأنهم استطاعوا فى اللجنة أن يجمعوا أكثر من مليونى ورقة من الوثائق، وأنه اطلع على بعضها بنفسه، لكن ضيق الوقت لم يمكنه من قراءة الكثير». أضاف «أنه مع ذلك يعتقد أن علاقاتنا مع أمريكا من ألزم الضرورات، وبالتحديد فيما يتعلق بإسرائيل». ثم استطرد وهو يهز رأسه: «بعض الناس يريدوننى أن أقيم علاقات كاملة مع إسرائيل ويريدون ذلك الآن ولكن عليَّ الانتظار أنا أنتظر على أحر من الجمر أن يجىء أبريل ويخرجوا من الأرض المصرية كلها». أضاف: «هل يظن الناس أن التعامل مع الإسرائيليين يسعدنى؟! هناك فارق بين أن أعترف بقوة إسرائيل، وبين أن أحبها!!». ثم استدرك: «محمد» (بيه) أقسم لك أنهم «يسمُّون بدني» فى كل مرة ألتقى «بواحد منهم»، أتضايق منهم ويفوت منى موعد نومى وأسهر الليل أشتمهم». وقلت: «إننى أفهمه، لكنه من حسن حظى أننى لست مضطرا لمقابلتهم، ولهذا فأنا كمبدأ لم أقابل منهم أحدا». وقال بسرعة: «ولكن كيف تستطيع أن تفعل ذلك إذا كنت مسئولا؟!». وقلت: «ولكنى والحمد لله غير مسئول». وقال الرئيس «مبارك»: هذا موضوع كنت أريد أن أكلمك فيه». ثم استطرد قائلا برقة بادئا بكلام كريم، لكن نبرة العتاب تشيع فيه: «الرئيس أنور» تعب معك حتى تتعاون معه». وسألته: «كيف يستطيع أحد أن يتعاون فى سياسة لا يؤمن بها؟!». قال: «تستطيع أن تساعد دون أن تتعامل مع إسرائيل». وقلت: «إن منصب الوزارة عرض من سنة 1956، وكنت لا أزال شابا قد تغريه المناصب، والرئيس «السادات» عاد بعد ذلك فعرض عليَّ منصب نائب رئيس الوزراء، أو رئيس الديوان السياسى». وقال: «أعرف ذلك، ولم أقصد أن أحدثك عن منصب». أسألك سؤالا صريحا ومحددا قالها وهو يتطلع إلىَّ مركزا: «ما رأيك أن تدخل الحزب الوطنى؟!!». وبدا أننى أصبت برعب، وقلت له: إننى لم أدخل الاتحاد الاشتراكى مع «جمال عبد الناصر» رغم عمق صداقتنا ورغم إلحاحه مرات لأنى لا أعتقد فى هذا النوع من التنظيمات السياسية التى تقوم فى حضن السلطة، وفضلا عن ذلك فلست من أنصار أن ينتمى الصحفى حزبيا». ●●● السادات وكاترتر سكت قليلا ثم سألنى: «إذا لم تكن تفكر فى دخول الحزب، فماذا تنوى أن تفعل؟!». أضاف: «لا يُعقل أنك سوف تجلس فى بيتك ساكتا!». وقلت ضاحكا: «أنه ليس له أن يقلق، فأنا لا أنوى الانضمام إلى قائمة المتعطلين الذين يبحثون عن عمل». أضفت: «لديَّ عقود لكتب جديدة مع «الناشرين» فى لندن ونيويورك بعد ستة كتب سبقت، تُرجمت وجميعا من الإنجليزية إلى لغات كثيرة، وآخرها كان كتاب «عودة آية الله» The Return of The Ayatollah عن الثورة الإيرانية، وقد صدر فى أوروبا وأمريكا أثناء وجودى فى السجن، وقد تُرجم حتى الآن إلى سبع عشرة لغة ثم إنه فور خروجى من السجن اتصل بى «أندريه دويتش» وهو أكبر الناشرين فى لندن، وسألنى إذا كان فى استطاعتى أن أقدم لهم بسرعة كتابا عن السبب الذى دعا إلى اغتيال «السادات»، وهو فى رأيهم «بطل السلام»، وقد قبلت عرضه، وذلك ضمن ما سوف أناقشه فى سفرة قريبة إلى لندن». وقاطعنى: «كتاب عن الرئيس «أنور»؟!! وقلت: «ليس عنه، ولكن عن عملية الاغتيال بالتحديد، وقد عثرت على عنوانه وأنا فى السجن، فقد كنت أفكر فى شىء من هذا القبيل، حتى قبل أن يتصل بى أحد من لندن، وعثرت أثناء تفكيرى فيه على عنوان له: «خريف الغضب»!. وكرر الرئيس عنوان الكتاب المقترح كما سمعه منى، وبدا حائرا فى فهم مقصدى به، لكنه تجاوز حيرته. وعلَّق بقوله: «ولكن هذا سوف يسبب لك مشاكل كثيرة، لأن الرئيس «أنور» له «جماعات كبيرة»!». وقلت: «أما عن المشاكل فقد تعوَّدت عليها، ثم إننى أرجوك أن تعرف أن الرئيس «السادات» كان صديقا، وليس مشكلة أن تختلف آراؤنا، وأن تتباعد الطرق بيننا، لكن ذلك لم يترك أثرا لدىَّ». زدت على ذلك: «أنه عندما وقع اغتيال الرئيس «السادات» وعرفت به فى السجن، فإنى بكيت عليه بصدق، وساعتها زال كل أثر للخلاف وما ترتب عليه، لأن الدم والدموع غسلت كل شىء!!». ●●● وجاءنى تعليقه مفاجئا: «لم أكن أعرف أن الكتب «شغلانة كويسة»!! وقلت: «أننى لا أعرف تصوره ل «الشغلانة الكويسة»، لكن الكتابة بالنسبة لى حياتى كلها!!». وعاد يسألنى: «ولكن ألا تفكر فى العودة للصحافة المصرية؟!». وقلت: «إن ذلك بعيد عن تفكيرى تماما، فقد اعتبرت أن دورى فى الصحافة المصرية انتهى بخروجى من «الأهرام»، وأوثر أن أترك المجال لآخرين، وكذلك لأجيال أخرى». ووجدها فرصة يعود بها إلى اقتراحه، فقال: «خسارة ألا يستفيد منك البلد» وسألته: «ألا يرى فى وجود صحفى وكاتب مصرى فى مجال النشر الدولى فائدة للبلد؟!!». وشرحت بعض التفاصيل عن حجم النشر الدولى، سواء فى الكتب أو فى الصحف، وبالتحديد عندما يقع الجمع بين الاثنين، فيصدر كتاب، ثم تُنشر فصول منه فى آلاف الصحف على اتساع العالم. ●●● ورد بأنه مازال يرى «أن أنضم إلى الحزب الوطنى، والمجال فيه بلا حدود»!! وقلت: «أنت تريد أن تضمنى إلى الحزب الوطنى، وأنا وغيرى نريدك أن تخرج منه». وسألنى عن السبب، وهل الأحزاب «بعبع»، أو أنها وسيلة العمل السياسي؟! وقلت: «الصحفى بصفة عامة يتعامل مع الأخبار، والأخبار لها استقلالها، وتلوينها بظلال التحزب، مخالف لقيمتها ومصداقيتها». واصلت الحديث: ولعله يتذكر يوم جئناه من المعتقل قبل أيام أنه سمع بعضنا يناشدونه مباشرة لترك رئاسة الحزب الوطنى، وقلت إنه فى العادة وفى النظام الرئاسى بالذات، فإن الرئيس حتى وإن كان منتميا إلى حزب، يجمد انتماءه لهذا الحزب فترة رئاسته. وقال بلهجة قاطعة: «لو تركت الحزب فسوف يقع». وقلت: إذن فإن الحزب لا وزن له فى حد ذاته، وهو يستمد وجوده من السلطة، وليس من الناس، وهذا هو الخطر. قال: «تخوفك من الحزب الوطنى مُبالغ فيه، ووجودى فيه ليس المشكلة، المشكلة فى العمل التنفيذى، فى الحكومة وأنت تعرف حجم المشاكل، وزاد علينا خطر الإرهاب، والناس تطلب «لبن العصفور»، ولابد من الاستقرار قبل أن نستطيع عمل أى شيء، والجماعات الإرهابية كامنة، وتنتشر تحت الأرض». ●●● عبد الناصر يترأس إحدى القمم العربية وبدورى قاطعته: «والنظام يساعدها». واستغرب ما قلته وهو يسألنى: «النظام يساعدها كيف؟!». قلت له: «هناك بالطبع المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، وهذه مشاكل ثقيلة، لكن هناك أشياء أخرى منها مثلا كثرة البرامج الدينية البعيدة عن قيم الدين، وكثرة الفتاوى فيما لا علاقة له بروح الدين.. كل هذا يسيء لكن كله يشحن!!». وزدت فقلت: «إننى سألت أحد زملائنا القُدامى فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيچية فى «الأهرام» أن يدرس مساحة البرامج الدينية على الإذاعة والتليفزيون، وفوجئت حين قيل لى إن نتائج بحثه فى الموضوع، أظهرت أن أكثر من 27% من مساحة البرامج دينية، أو ذات طابع دينى، وأنا رجل من أسرة متدينة، وأعرف قيمة الدين هداية وعصمة، ثم إننى من أسرة كان أول تقاليدها أن يحفظ أبناؤها القرآن، وقد حفظته كله، لكنى لا أستطيع أن أتصور بعض ما يُقال فى البرامج الدينية. أضفت آسفا: إننى سمعت بنفسى من «إذاعة القرآن الكريم» من القاهرة، وفى معرض برنامج من برامج التواصل مع السامعين، سائلا يستفسر عن «كيفية الاغتسال بعد ممارسة الجنس مع بقرة»، وبقدر ما أفزعنى السؤال، فقد أفزعنى أكثر أن أحد الشيوخ جاوب عليه، وراح يحدد لسائله وسائل الاغتسال المطلوبة فى تلك الحالة!!». وأغرق «مبارك» فى الضحك ثم قال: «التوسع فى البرامج الدينية ضرورى، لأننا لابد أن نواجه الإرهابيين على أرضيتهم، ونأخذ منهم الناس». وقلت: «المشكلة أنك إذا واجهت الإرهابيين على أرضيتهم، وبهذه الطريقة، فسوف تقبل الاحتكام إلى قانون لا تعرف مصدره، ولا تعرف نصه، ولا تعرف قاضيه». وتوقف عند هذا التعبير وبدت عليه الحيرة، وقال لي: «هل يمكن أن تفك لى هذا الكلام «الملعبك»؟!! وحاولت شرح وجهة نظرى بأسلوب آخر!! وقال وهو يعاود الضحك: «هل علىَّ أنا أيضا أن أهتم بالرجل الذى يعشق (استعمل لفظا آخر غير العشق!) بقرة؟!!». وقلت له بسرعة: «لا أحد يتصور أن يطلب منك ذلك، ولكن الناس تطلب رؤية للمستقبل مقنعة». ●●● ووصل الحديث بنا إلى أسلوب عمل رئاسة الدولة، واقترحت «أنه من الضرورى والرئاسة بهذا الدور المركزى أن يُعاد تنظيمها بطريقة ملائمة للعصر». وسألنى عما أعنى، وقلت: «إننى لاحظت منذ خرجنا من المعتقل قبل أسبوع، أن الرئاسة تُدار بأسلوب يحتاج إلى مراجعة». وكان يسمعنى باهتمام، وواصلت: «إننى سمعت من أصدقاء بينهم «فؤاد سراج الدين»، و«ممتاز نصار»، أنك بعثت إليهم برسائل منك أو ملاحظات مع «أسامة الباز»، وذلك حدث معى شخصيا أيضا و«أسامة» كما تعرف صديقى، وكان يعمل معى لسنوات، وأنت تثق فيه ولا أفهم لماذا تجعله يعمل بطريقة «بائع متجول على عربة يد»، تبعثه برسالة إليَّ، أو رسالة إلى غيرى، لماذا لا تعين «أسامة الباز» وزيرا لشئون رئاسة الجمهورية، وتُنشئ له مقرا فى القصر الرئاسى يعرفه الناس، وتكلفه بإنشاء مكتب فيه خبراء فى القانون والاقتصاد، ومتحدث رسمى باسم الرئاسة يعبر عن رؤاها فى الداخل وفى الخارج، وبذلك يكون هناك مصدر معروف تصدر منه الرسائل والتوجُهات، ومقر يذهب إليه الناس للاتصال والتشاور!! وقال بلهجة تنم عن تردد: «المسألة أننى لا أريد أكرر ما يسمح بظهور مركز قوة فى الرئاسة، وأنت تعرف تجربة «سامى شرف» مع الرئيس «جمال»، المشكلة أن وجود رجل فى مثل هذا الوضع قد يؤدى إلى عُزلة الرئاسة عن الناس بوجود رجل يستطيع أن يحجب ويسمح بما يشاء، وهى مشكلة عرفناها». وقلت: «إن الأمر يتوقف على شخصية الرئيس، وأسلوب عمله، ومع ذلك فدعنى أقل لك إن «سامى» مظلوم فى بعض ما قيل عنه، ومع ذلك فإن الأمر يتعلق بك أنت وأسلوب عملك». وأضفت: «وأنا شخصيا أرى أن ترسل أحدا إلى البيت الأبيض فى واشنطن، أو إلى «10 دواننج ستريت» فى لندن، ليدرس كيف تُدار مكاتب رؤساء الدول فى هذا العصر الجديد، وتقرر أنت على هذا الأساس أى نظام يحقق لك ما تريد بأقصى قدر من الكفاءة!!». وحدثته عما أعرفه عن تنظيم البيت الأبيض ومجلس الأمن القومى ونظام العلاقات مع الكونجرس ومع الحزب ومع الإعلام وعن مؤسسات السلطة فى الداخل والخارج. وحدثته كذلك عما أعرفه عن تنظيم «10 دواننج ستريت»، وعن مطبخ القرار السياسى، وعن مكتب الاتصال مع الحزب فى المعارضة أو فى الحكم، وعن منصب سكرتير عام مجلس الوزراء الذى يرأس المجلس التنفيذى للوكلاء الدائمين للوزارات». وقلت: «إننا نحتاج إلى دراسة تجارب الآخرين». وقال: «مازلت أفضل أن أعمل مباشرة بمجلس الوزراء كله.. المجلس هو مكتبى، هو نفسه سكرتارية الرئيس!». وقلت: «إن ذلك مستحيل عمليا، ولابد أن يكون للرئيس مكتب فيه خبراء للشئون السياسية والقانونية والاقتصادية، يدرسها ويقدم له توصيات بشأنها، وإلا فإن الرئيس ليس أمامه فى هذه الحالة إلا أن يوقع مشروعات المراسيم بقوانين كما تصل إليه من مجلس الوزراء، وفى هذه الحالة فإن الرئاسة لا تعود مركز توجيه العمل الوطنى، وإنما تصبح توقيعا وختما على المراسيم، يحولها إلى قوانين!!». وبدت عليه أعراض تحيُّر، وقال: «كلامك فيه منطق، و«أسامة الباز» له معى تجربة طويلة!». قلت: «هو موضع ثقتك وهذا مهم، وأنا أعرف أن «أسامة» لديه «شطحات بوهيمية» فى بعض الأحيان، لكنه من المحتمل أن بعض ذلك عائد إلى أنه يعمل بلا مكتب وبلا مؤسسة معه، وإنما هو رجل وحده، وهذا ما قصدته بصراحة حين قلت لك إن الرئاسة تعمل بمنطق «البائع المتجول». وقال بما بدا لى أنه على استعداد للبت فورا فى المسألة: «لك حق، ولابد أن يفهم «أسامة» أن عليه العمل بطريقة منظمة». ثم رفع سماعة التليفون وطلب توصيله ب«أسامة الباز»، وبعد خمس دقائق دق التليفون ورفع الرئيس سماعته، ثم التفت إليَّ يقول: «هل رأيت «أسامة» ليس هنا، بحثوا عنه فى كل مكان، ولم يعثروا له على أثر». وقلت دفاعا عن «أسامة»: «لابد أنك كلفته بمهمة فذهب إليها». وقال «مبارك»: «سوف أرسله إليك فى مكتبك، وقل له كل ما تتصوره حتى أناقشه معه وأقرر». ●●● عبد الناصر وبريجنيف وقارب اللقاء نهايته، وبينما أهُمْ بالقيام استدعى الرئيس «مبارك» أحد أفراد سكرتاريته، وطلب منه أن يكتب على ورقة كل أرقام التليفونات الخاصة بمكتبه، بما فيها تليفونه الشخصى، طالبا أن أتصل به «فى أى وقت». وقلت للرئيس: «إن هذه رخصة أعتز بها لكنى لا أنوى استعمالها، وأفضل ترك أمر الاتصال فى أى وقت له، فهو رجل مشغول على الآخر، وجدول أعماله يجب أن يكون ملكه، دون إلحاح عليه من أحد». وأضفت: «لو أننى استعملت هذا الترخيص الذى تفضَّل بإعطائه لى، لما كففت عن إبداء الملاحظات، وأول الدواعى أننى مختلف مع مجمل السياسات المُعتمدة، وإذا رُحت أبدى رأيا فى كل ما أشعر بالقلق منه، فسوف أجد نفسى أقوم بدور من «لا يعجبه العجب»، وذلك دور لا أحبه!!». ورحنا نمشى نحو الباب، ولمح «مبارك» مصوِّر الرئاسة المشهور، الأستاذ «فاروق إبراهيم» يتحرك من بعيد، والتفت نحوى قائلا: «دعنا نلتقط صورة معا»، وقلت للرئيس صراحة: «أننا نستطيع أن نستغنى عن الصورة، وربما كان ذلك أفضل». ووقف فى مكانه وتطلع إليَّ وهو يعلِّق: «غريبة الناس يجيئون إلى مقابلتى وليس لديهم غرض إلا هذه الصورة». وقلت: أننى كنت أقابل «جمال عبد الناصر» مرتين وثلاث مرات فى الأسبوع، وكذلك «السادات»، وكانت اتصالاتنا التليفونية عدة مرات كل يوم، ومع ذلك لم تُنشر صورة للقاء، ولا خبر عن اتصال تليفونى، وأنا لا أفهم «بدعة» نشر أخبار أو صور لقاءات الصحفيين مع الرئيس، لأن هذه «طبائع أشياء»، و«طبائع الأشياء» ليست خبرا وتدارك قائلا: «والله لك حق، إننى أقابل كل الناس ولا يحدث شيء، لكنه عندما «عرفوا» أننى سأقابلك «ولعت «اللمبة الحمراء» فى الصحافة وفى الحكومة وفى الحزب». ولم أملك نفسى، فقلت: «سيادة الرئيس.. هل هناك بالفعل حزب؟!». وهز رأسه قائلا: «أنت مصمم على رأيك فى الحزب، الحزب مهم فى الاتصال بالناس وفى «تمرير القرارات»، ولفتت الكلمة الأخيرة نظري!!». ●●● ومساء نفس يوم المقابلة اتصل بى «أسامة الباز»، ومر علىَّ فى مكتبى، يحمل فى يده دفترا من ال Yellow Pad الذى يستعمله القانونيون فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وبادرنى قبل أن يجلس أمامى: ما الذى اقترحته على الرئيس؟!! ورويت له أطرافا تخصه مما دار فى حديثى مع «مبارك»، وكان رده: «أنت تضيع وقتك، هو له طريقة فى العمل مختلفة، وهو يفضل أن يسمع من هنا ومن هناك، ويتصرف بما يرى (وهذا كلام لك)، وسوف ترى. وهو لن ينشئ وزارة لشئون رئاسة الجمهورية، ولن يعيننى وزيرا لها». وتشعَّب الحديث بيننا، وأثناء خروجى لاحظ «أسامة الباز» وهو يمر عليَّ حيث أجلس فى مكتبى، أن هناك أوراقا كثيرة مكتوبة بخطى، وبمعرفة سابقة ووثيقة فإنه قال لي: «أراهن أن هذه الأوراق كلها نقط حديثك معه». وقلت: «إن ما خطر له صحيح». أكورا بريس: عن موقع “بوابة الشروق” في الحلقة القادمة:في باريس حكايات أخري ! .. الرئيس الفرنسي (ميتران) يسأل عن (مبارك)