ملايير الأوراق يتم التعامل معها، ونسخها بواسطة آلات متطورة بأكاديميات المملكة، لتوضع في أظرفة وتخزن في انتظار يوم الامتحان، هي مسؤولية تقع علىعاتق أشخاص من طينة خاصة، يطلق عليهم اسم المعتكفين، الذين يودعون عائلاتهم وأطفالهم مع اقتراب استحقاق الباكلوريا، ليتم سجنهم في بناية لها مفتاح واحد، يكون بحوزة بحوزة مدراء الأكاديميات، ويمنعون من الخروج إلى حين انتهاء الامتحانات مهما كانت الظروف. بالداخل لا هواتف نقالة، ولا حواسيب أو «موديمات»، فقط جهاز تلفزة، يؤمن للمعتكفين معرفة ما يدور بالخارج، فهنا حتى الحقوق المتاحة للسجناء ممن سرقوا أو قتلوا ونهبوا ممنوعة، ولهذا منعنا أيضا من الاقتراب من إحدى هذه البنايات التي يتواجد بها المعتكفون، أو حتى تصويرها، كما لو أن الأمر يتعلق بمنطقة عسكرية. يقول أحد المشاركين في هذه المهمة «في أكثر من مناسبة وقعت حالات وفاة في أسر المعتكفين، ولم يتم إبلاغهم بها، حتى ولو تعلق الأمر بأم المعتكف أو ابنه، لذا فإن يوم خروجنا يكون بمثابة عيد، حين ندرك بأن الأسرة بخير، وفرحتنا تكون أعظم حين يمر اليوم الأخير من الامتحانات بسلام حيث نتبادل التهاني والتحية بحرارة». مقولة سارتر « الجحيم هو الآخر» تسري أيضا على المعتكف، فوضع مئات الأشخاص في مكان مغلق، وتحميلهم مسؤولية سلامة امتحان وطني يجعل الأجواء تتوتر، وتشتعل حرائق الأعصاب أحيانا لتتطور إلى عراكات أكيد أن الأمن لن يتدخل فيها، حيث يتم تجاوزها واستئناف العمل من جديد مهما بلغت حدتها. هدنة السجن يقول معتكف ممن عايشوا هذه التجربة، «الأسبوع الأول غالبا ما يمر بسلام، لكن بعد ذلك تبدأ الأعصاب في التوتر، وكم من مرة تحول المعتكف إلى ساحة مطاردة وتراشق بالكراسي واللكمات وغيرها، لكن المتورطين في هذه الحروب الصغيرة والمحدودة، يضطرون في جميع الأحوال إلى إعلان هدنة، واحترام فترة القيلولة التي تعتبر مقدسة لدى جميع المعتكفين، وتمتد من الساعة الواحدة زوالا إلى الثالثة، لأن معظمهم لا ينام سوى أربع ساعات ليلا، من أجل إتمام العمل في الوقت المحدد، وقال إن أي إزعاج في وقت القيلولة قد يتسبب في حرب حقيقية، لذا يحرص الجميع على الصمت خلال هذه المدة التي نموت فيها سريريا، قبل أن نعاود استئناف النسخ، فالراحة أمر ضروري، والإنهاك أحيانا بفعل الليالي البيضاء التي نقضيها في الأسبوع الأخير قبل بداية الامتحانات، قد تقود إلى ارتكاب أخطاء مثل وضع ورقة امتحان في ظرف مخصص لمادة في مكان مادة أخرى، وهو ما من شأنه أن يفسد الامتحان برمته باعتباره تسريبا سنتحمل مسؤوليته بشكل جماعي. الاعتكاف في سنوات الرصاص في سنوات الثمانينيات كانت أم الوزارات -وزارة الداخلية- تنظر بعين الريبة لامتحانات الباكلوريا وللمشرفين، عليها فطلبة المرحلة الثانوية كانوا في ذلك الزمن رجالا حقيقيين غير التلاميذ الحاليين من «جيل الايفون»، فبعضهم كان حينها متزوجا، أو مناضلا متشبعا إما بالفكر اليساري أو الشيوعي وغيره، وهذا الأمر جعل الهاجس الأمني يطغى على مراقبة سير الإعداد للامتحانات على شاكلة الدول البوليسية، حيث أكد أحد المعتكفين السابقين أنهم فوجئوا سنة 1985، بوضع مكبر صوت، ينقل تفاصيل كل ما يجري من أحاديث داخل المعتكف إلى المسؤولين الذين ينجزون تقارير ترسل إلى المسؤولين الأمنيين، غير أن السحر سينقلب على الساحر، وعوض أن يتمكن المسؤول من إنجاز تقاريره، وجد نفسه مثارا للسخرية بعد أن تعمد كل معتكف الاقتراب بين الفينة والأخرى من لاقط الصوت، وإطلاق جمل مستفزة مثل: «هل تسمعني حول، هنا المقاطعة السادسة، حول» أو التظاهر ببيع الخضر، وغيرها من السلع في الأسواق الأسبوعية، الأمر الذي أفقد المسؤول أعصابه لينقل شكواه إلى أصحاب الوجوه الخفية بوزارة الداخلية التي أوصت بنزع لاقط الصوت. في السنة الموالية ، يضيف المصدر ذاته الذي أمضى أزيد من 30 تجربة اعتكاف، قام جميع المعتكفين بحلق رؤوسهم لتبدو مثل حبات البصل، وقال «وقف أزيد من 25 شخصا حليقي الرؤوس أمام المسؤول، قبل الشروع في الاعتكاف ما جعل رجليه ترتعد خوفا من أن يكون الأمر مرتبطا بحركة احتجاجية، ليساءل في هدوء الثعالب عن مطالبهم، وأسباب إقدامهم على حلق رؤوسهم، وهو يعاني صعوبة في إيجاد ريق يبلل به فمه، قبل أن يتلقى ردا أعاد الحياة إلى وجهه، بعد أن تم إخباره بأن هذه المبادرة جاءت لاختصار الوقت الذي قد يتطلبه حلق الشعر في اعتكاف كان يدوم خمسين يوما، ويتم فيه استعمال آليات نسخ بدائية تعتمد على الامونياك وأوراق «الرولو» الذي يحتاج إلى قصه، كما كان يتم التعامل مع أوراق الامتحانات مثل مخطوطات تعود إلى الزمن الفرعوني. مخبرون ورموز سرية يقول أحد سجناء الباكلوريا السابقين» معظمنا يتحول إلى مخبر بشكل طوعي، حيث نقوم بمراقبة بعضنا بطريقة عفوية، ما دام أن مسؤولية التسريب ستقع على الجميع، لذا فداخل المعتكف يمنع إغلاق باب الغرف التي ننام فيها، وذلك للسماح لأي شخص موجود بالداخل بالاطلاع على ما يجري، كما يمنع رمي أي ورقة، ولو كانت قمامة خارج المعتكف، حيث كنا نقوم بحفر حفرة وإحراق الأوراق بداخلها، غير أن ذلك أدى إلى حادث كاد أن يتسبب في كارثة، حيث وقع أحد المعتكفين داخل الحفرة ليتم إنقاذه بعد إصابته بحروق»، وأضاف بأن الضحية لم يتم نقله للمستشفى بل حضر الطبيب الذي قدم له العلاجات الضرورية تحت المراقبة. كما أن وجود ابن أحد المعتكفين ضمن الممتحنين يحظر على المعني بالأمر، والمشرف على فك القن السري الموجود على ورقة الامتحان الاقتراب من بعضهما أو تبادل الحديث، علما أن التعامل مع أوراق الامتحان يتم بواسطة رموز سرية تحول دون تسريبها، وفي حالة وقوع ذلك فإن هذه الرموز تسهل مأمورية التعرف على مصدر التسريب. ويبقى مديرو الأكاديميات الفئة الوحيدة المسموح لها بزيارة مقر الاعتكاف، ويمنع عليهم الاقتراب من أي ورقة، حيث يتحولون بدورهم إلى هدف لمراقبة المعتكفين، يقول أحد المشتركين في هذه العملية: «يلا وقعات شي حاجة… كولشي غادي يمشي فيها، لذا الحضية سائدة». عريس في الاعتكاف أحد المعتكفين وجد نفسه مضطرا لمغادرة عروسه في اليوم الموالي لزواجه ليلتحق بالاعتكاف الذي دام مدة 20 يوما، ما جعل عددا من زملائه يحولونه إلى مادة للسخرية، علما أن جميع المعتكفين هم الذكور، بالنظر إلى استحالة وجود امرأة ضمن قبيلة من الرجال في مكان مغلق دون مفتاح، وأيضا بحكم الإرهاق الذي ينجم عن طول مدة الاعتكاف، حيث يغادر معظم المعتكفين وهم يعانون من أعراض تختلف حدتها، من انتفاخ القدمين بفعل طول مدة الوقوف، إلى حساسية في اليدين أو العينين نتيجة التعامل مع الأوراق ومواد الطباعة، وكذا الإرهاق الناجم عن طول مدة الاشتغال وساعات النوم القليلة. «التكرفيس» هي الكلمة التي اختصر بها أحد المعتكفين الظروف التي يتم فيها العمل على إعداد أوراق الامتحانات، نتيجة هذا «النظام البدائي» الذي لازال معتمدا إلى الآن في المغرب، وقال إن أوراق الامتحانات يتم عدها يوميا قبل وضعها في الأظرفة حسب عدد التلاميذ، والقاعات، التي يتم فيها إجراء الاختبارات، وقال «لك أن تتصور مشقة عد ملايير الأوراق يدويا وعدم الوقوع في أي خطأ». الظروف القاسية التي يعمل فيها المعتكفون رغم توفير جميع وسائل الراحة والتغذية، والتي تفرض عليهم الابتعاد عن عائلاتهم والتناوب على حلق شعرهم بواسطة «طوندوز» يتم السماح بإدخاله للمعتكف، إضافة إلى أن هؤلاء مضطرون إلى تصبين ملابسهم بشكل يدوي ونشرها داخل المعتكف وليس خارجه، وغيرها من أشكال الحياة التي قد تحيل إلى ظروف السجن في السنين الغابرة، أو معاناة الجنود في جبهات القتال، جعلت عددا من الملتحقين الجدد بعالم التعليم يرفضون خوض تجربة الاعتكاف ما يهدد فئة المعتكفين بالانقراض. يقول أحد قيدومي المعتكفين «كنت أجهز نفسي مثل عسكري، أحمل ثيابي التي تكفيني وأعد أغراضي الشخصية وغيرها، وأسلم على أفراد أسرتي بحرارة قبل أن أدخل البناية ويغلق علي الباب»، وأضاف «حاليا معظم المعتكفين هم من الجيل القديم، وعدد منهم أصبح يرفض خوض هذه التجربة التي تفرض عليك التخلي عن حريتك، وتحمل مسؤولية جماعية قد تعصف بحياتك المهنية والأسرية»، وقال إن الوزارة مطالبة بالانفتاح على هذه الفئة من الموظفين التي تتكلف بإعداد نسخ الامتحان الوطني الموحد الخاص بالباكالوريا ، للإدلاء بصوتها في بعض الخطوات الإجرائية التي تتضمنها المذكرات والمساطر المنظمة لهذا الاستحقاق الهام، وأضاف متحدث المساء أنه من العار أن يستمر تجاهل المصالح المركزية بوزارة التربية الوطنية لأدوار هذه الفئة التي تتكلف بإعداد ونسخ ملايير الأوراق لأكثر من 400 ألف مرشح و مرشحة يجتازون امتحانات الباكالوريا بتراب المملكة. وأكد المتحدث ل «المساء» الذي ظل يعتكف أكثر من 20 سنة أنه لم يسبق لأي وزير تربية وطنية أن قام بزيارة عمل أو استطلاع لمواقع هذا الاعتكاف للوقوف جليا على جسامة الأدوار التي يقوم بها موظفون يتم عزلهم بشكل نهائي عن العالم الخارجي. المغاربة وأزمة الثقة المتحدث ذاته أكد أنه من الضروري التفكير في صيغ جديدة لطبع واستنساخ مواد الامتحان، فانقراض هذه الفئة التي أشرف الكثير منها على التقاعد يؤشر على خطورة الموقف مستقبلا، مع التأكيد أن أجواء الاعتكاف وبدائيتها والاحتياطات الأمنية المصاحبة لها باتت موضع نفور من لدن الكثير من الموظفين داخل الأكاديميات الجهوية، ممن يشكلون جيلا جديدا من الشباب وخريجي الإدارة الذين يصعب سجنهم وراء القضبان لمدة تناهز الشهر، رغم الإغراءات المقدمة لهم من قبيل التعويضات المالية، يضيف المصدر ذاته الذي عايش الزمن الذهبي حين كان فيه الحصول على البكالوريا بمثابة عرس حقيقي تقام على شرفه الولائم و الحفلات، وكان لها سبورة شهيرة تتحول إلى ساحة إغماء ورمي بالأحذية و»الصنادل» البلاستيكية، أو فضاء للدموع والعناق وهيستيريا الفرح. وكان مسؤول من الوزارة قد سبق أن صرح بأنه لا يمكن الإنكار بأن طريقة التعاطي مع امتحانات الباكالوريا خاصة في الشق الأمني المتعلق بالاعتكاف، مؤشر فعلي على أزمة ثقة تعكس نمط تفكير وتدبير لقطاع يعول عليه المجتمع لتكريس التربية على المسؤولية، والثقة في المؤسسات، وأكد أن دولا كثيرة بالعالم لا تعيش هذا المشكل ومنها دول عربية تجاوزت نظام الاعتكاف بالمرة. جنازة تحت حراسة رجال الدرك استقصت «المساء» فيما إذا كانت عمليات الاعتكاف قد عرفت على امتداد سنوات تطبيق هذا النظام ، أي استثناء، مكن بعض المشاركين في هذه العملية من السراح المؤقت لأسباب قاهرة، حيث أكدت مصادر متطابقة أن الاستثناء الوحيد الذي سجل كان في سنوات التسعينيات، بعد أن سمح لأحد المشاركين في عملية الاعتكاف بمغادرة المقر تحت حراسة الدرك الملكي لساعات معدودة بعد تفتيشه جيدا، وجاء ذلك بعد أن توفيت والدته، علما أنه كان ابنها الوحيد، ما جعل الإدارة تتخذ هذا القرار لظروف إنسانية محضة، غير أن بعض المعتكفين السابقين يطعنون في هذه الرواية، ويؤكدون أن أسباب عدم السماح للمعتكفين بالتفاعل مع مجريات الحياة اليومية لأسرهم، يهدف إلى ضمان عدم تأثرهم بأي عوامل قد تشتت تركيزهم، لأن الأخطاء في هذا المجال ستطير فيها الرؤوس، والإدارة المغربية تعودت أن يتم احتواء الأخطاء بعقابات جماعية تجمع الأخضر واليابس. ما عدا حالة الجنازة التي حضر فيها المعتكف تحت حراسة الدرك الذي تكفل بنقله إلى قريته وإعادته إلى المعتكف، فإن تاريخ أرشيف الاعتكاف يؤكد بأن عقوبة «الاعتقال» صارمة، ولا مجال فيها لأي تساهل، كما أن اختيار المشاركة في هذه العملية لا يقبل التراجع مهما كانت الظروف، وهو ما فرض على أحد المعتكفين حمل حقيبته والتوجه نحو «المعتقل» في نفس الليلة التي تورط فيها ابنه في إشكال قانوني كان يفترض حضوره من أجل تقديم ضمانات مالية، وأمام إدراك الإدارة أن هذه القضية قد تؤثر على نفسية المعتكف وباقي زملائه، قامت بتدبير المبلغ المالي المطلوب وإخطار المعني بالأمر بذلك، ليقوم بمهمته على أحسن وجه، كما تولت الإدارة في أكثر من مرة مهمة تطبيب بعض أفراد أسرة المعتكفين. اختناق نفسي أحد المعتكفين الذي جرب هذه العملية مرة واحدة، وقرر بعد ذلك الإقلاع عنها، أكد أنه كاد أن يجن بعد أن اكتشف أنه مصاب ب «فوبيا» الأماكن المغلقة، وقال في تصريح ل«المساء» لقد اكتشفت أني غير قادر على التعامل مع الأماكن المغلقة، وأحسست باختناق وضيق في التنفس رافقني طيلة مدة الاعتكاف رغم أني حاولت جاهدا ألا أظهر ذلك لباقي الزملاء، خاصة أن معظمهم كانوا من ذوي السوابق في مجال الاعتكاف، وأضاف « لقد شعرت بعد خروجي من المعتكف بقيمة الحرية، وراودني إحساس بأنني محكوم بمدة طويلة تنشق لأول مرة نسيم الحرية»، قبل أن يختم بأن خوضه لهذه التجربة لم يكن تحت ضغط الهاجس المادي، بل حاول الهروب من مشاكل أسرية بالاختفاء لمدة لكن هذه التجربة جعلت معاناته مضاعفة. يقول أحد المسؤولين عن نظام الاعتكاف بأن التعويضات المالية، التي تمنح لهذه الفئة لا تساوي حجم العمل والتضحيات التي يقومون بها، حيث يتحول المعتكف من إطار تربوي إلى «حمال وشاوش وكاتب ومسؤول» في نفس الوقت، ويحكم عليه بألا يذوق طعم الراحة إلا بعد انتهاء هذه الفترة، وأضاف نحن نتحدث هنا عن الراحة النفسية، والجسدية فتجربة التسريب التي وقعت في إحدى المدن، وما تلاها من قرارات عقابية لازالت حاضرة في أذهان الجميع، وبالتي فإن الحذر والخوف من الوقوع في أي تقصير طيلة هذه المدة كاف لوحده لإرهاق الأعصاب والتأثير على الصحة الجسدية. في مقابل هذا الرأي لا يخفي عدد من المعتكفين بأن قرارهم خوض هذه التجربة تتحكم فيه عوامل مالية، حيث أكد أحدهم بأنه غارق في قروض الاستهلاك، وينتظر كل سنة محكومية الاعتكاف من أجل سد ثقوبه المالية، وأيضا تمكين أبنائه من مصروف لقضاء العطلة السنوية.