الكندي من النماذج المشرقة التي تنتمي إلى علماء العصر الإسلامي واختراعاتهم. هو أبو يوسف يعقوب الكندي الذي ولُد في مدينة الكوفة، تلقى علمه الأولي في الكوفة، وعندما كان في عمر الخامسة عشر حفظ القرآن الكريم والكثير من الأحاديث النبوية الشريفة وأصول الفقه، وعاش في البصرة في مطلع حياته، وتعلم فيها "علم الكلام"، ثم عاد إلى بغداد في الفترة الذهبية للعصر العباسي ليُكمل مسيرته العلمية والثقافية على يد أعظم العلماء. كان الكندي موسوعة علمية، فإلى جانب تضلعه في علوم الدين، أبدع في علوم كثيرة كالهندسة والرياضيات والكيمياء والطب والفلسفة والموسيقى. الكندي يعكس الثقافة التي كانت سائدة في عصره، يجتمع فيها علوم الدين والعلوم البحثة بالإضافة إلى العلوم الأجنبية خاصة اليونانية والصينية والمصرية، حيث تَرجَم من اليونانية إلى العربية كتاب "الأدوية المفردة" لجالينوس، وكان يتقن اللغة اليونانية والسريانية. هذه الثقافة المنفتحة على علوم العصر وعلوم الأقوام الأخرى، هي التي كانت وراء العصر الذهبي الذي ساد في الحقبة الإسلامية بين القرن 8 والقرن 14. يعود إليه الفضل في اكتشاف منهج البحث العلمي القائم على الاستدلال والمقدمات، وهو ما ساهم في ظهور الكثير من الاكتشافات القائمة على أساس بحث علمي سليم. ليس هذا فقط بل كان له العديد من الإسهامات في الجغرافيا والمنطق والفلسفة وأيضا الهندسة والرياضيات والكيمياء والطب. فكان أول من أوضح كيفية استخدام الرياضيات في الطب خصوصا في الصيدلة، فعلى سبيل المثال اعتمد على الرياضيات لوضع مقياس يسمح للأطباء بقياس مدى فاعلية الدواء، وكانت موسوعته أول موسوعة تُدخِل الرياضيات في الطب. إضافة إلى كل تلك التخصصات، أبدع الكندي في الموسيقي، فهو واضع أول سلم للموسيقى العربية، وأعطى للموسيقى بعدا آخر يتجلى في العلاج الطبي حيث اكتشف التأثير العلاجي للموسيقى خاصة الأمراض النفسية، وحاول علاج صبي مشلول شللا رباعيا باستعمال الموسيقى. هو كذلك عَلَم من أعلام العرب في الفلسفة وعلم المنطق، مؤسس علم الكلام لدى العرب ومؤسس الفلسفة العربية في العصر الإسلامي، ولذلك لُقب بفيلسوف العرب. عُرف كذلك بجمال خطه فعيَّنه الخليفة المتوكل خطاطه الخاص. كما عيَّنه المعتصم مربيا لأطفاله وذلك لحكمته وذكائه. كما كان الكندي رائدًا في مجال تحليل الشفرات واختراقها باستخدام خبرته الرياضية والطبية، وهو ما كان يسميه الكندي "علم التعمية". وأجرى تجارِب كثيرة حول فاعلية العلاج بالموسيقى. قام الكندي بإنجازاتٍ كبيرة جدًا في مجالات علمية مختلفة، لا يمكن حصرها في سطور، فهي لا تُعد ولا تُحصى. ويمكن أن نتعرف على أبرز هذه الإسهامات في المختصر التالي: الرياضيات: أبدع الكندي في الهندسة والحساب، حيث كان له دورا مهما في إدخال الأرقام الهندية للعالم، بالإضافة إلى توافق الأعداد بما فيها الأعداد النِّسبية وكيفية حساب الوقت. الطب والكيمياء: بَرَع الكندي في الطب وربطه بعلم الرياضيات، حيث وضع مقياسًا رياضيًا لقياس فعالية الدواء، وتحديد كمية العقاقير المعقدة، وقد تأثر الكندي بأفكار جالينوس الطبيب الإغريقي، وكتب أكثر من 30 أطروحة في الطب. الكيمياء: بدأ بتشكيل العطور، بعد أن قام بإجراء عدة تجارب لتحويل النباتات إلى زيوت عطرية وجمَع بين روائحها العطرة. الموسيقى: كان الكندي أول من وضع سُلما موسيقيا عربيا مازال يُدَرَّس إلى الآن، ويُعتبر أيضا أول من أدخل كلمة "موسيقى" إلى اللغة العربية ومنها انتقلت إلى الفارسية والتركية وعدة لغات أخرى في العالم الإسلامي، وتفوق على الموسيقيين اليونانيين آنذاك. الفلسفة: كانت الفلسفة الجهد الأكبر للكندي وقد تميز فيها، حيث ترجم النصوص الفلسفية اليونانية أثناء عمله في بيت الحكمة، كما أنه أدخل العديد من المصطلحات الفلسفية إلى اللغة العربية، ليكون بذلك أول من وضع اللبنة الأساسية الفلسفية الأولى في طريق الفلاسفة من بعده مثل: ابن سينا والفارابي والغزالي وغيرهم. الفلك: للكندي نظرية حول الأجرام السماوية تنتظر حتى وقتنا الحاضر من يستمر في دراستها، قبل أن يهتم بها علماء الغرب ويتوصلوا لحقيقة فلكية لم نكلف أنفسنا عناء البحث فيها. يعتبر الكندي أن اختلاف الفصول ينتج عن اختلاف وضعيات الكواكب والنجوم وأبرزها الشمس، وأن أحوال الناس تختلف وفقا لترتيب الأجرام السماوية فوق بلدانهم. وألف بهذا الصدد كتابه "روحانيات الكواكب". إلا أن كلامه هذا كان غامضا فيما يتعلق بتأثير الأجرام السماوية على العالم المادي، وهو ما يتطلب المزيد من الأبحاث لمعرفة مدى صحة نظرية الكندي في الفلك. علم النفس: كتَب الكندي عدة رسائل في هذا العلم الذي لم يكن متطورا في عصره، ويكاد لا يهتم به أحد. من مؤلفاته في هذا العلم "رسالة في علة النوم والرؤيا وما ترمز به النفس"، وكان أول من أدخل الموسيقى في علاج الأمراض النفسية. إذا كان هذا هو الكندي، فيمكننا القول إننا أمام موسوعة علمية ومعرفية، وقوة ثقافية تجمع بين ثلاثة عناصر: العلوم الدينية وعلوم العصر والانفتاح على ثقافة الشعوب الأخرى. هذه المكونات الثلاثة لثقافة الكندي، أثرت على باقي العلماء اللاحقين، وجعلتهم يُعمقون معرفتهم بمختلف العلوم والأفكار التي طرحها الكندي باتباع نهجه العلمي، وهو ما ساهم في ابتكارات كبرى كالدورة الدموية لابن النفيس، والغرفة المظلمة لابن الهيثم التي سماها "القُمْرَة" ومنها جاء مصطلح الكاميرا، واكتشاف الجزري لآلةٍ تُحوِّل الحركة الدائرية إلى حركة خطية تمكَّن من خلالها من تصميم ما يُعرف بالكَرَكْ الذي كان وراء صناعة الآلات لرفع الأوزان الثقيلة ومِضخات الماء. نذكر كذلك اكتشاف الصابون عن طريق خلط الزيت مع مواد قلوية تُصنع من رماد نباتات ملحية، وكلمة "قالي" في اللغة العربية تعني رماد. وكانت أوروبا التي لم تكتشف الصابون سوى في القرن 13، تستورده من الأندلس وشمال إفريقيا حيث كانت مدينة فاس تحتضن أكثر من 17 مصنعا للصابون إضافة إلى مدن أخرى مثل دمشق نابلس وحلب، عُرفت بمصانعها وجودة الصابون. وفي الطب نذكر طريقة تشخيص الأمراض لابن سينا والمجموعة المرجعية في الدراسات الطبية لابن الرازي وهي اكتشافات ما زالت تُستعمل في عصرنا الحالي. وفي الرياضيات نشير إلى اكتشاف علم الجبر من قبل جابر ابن حيان والخوارزميات من قبل الخوارزمي وهو أول من يكشف عن مفهوم رفع رقم إلى قوة والمعروف بالأُسْ. وفي عالم الطيران، كانت طائرة عباس ابن فرناس ملهمة للعالِم ليوناردو دافنتشي… ناهيك عن كون الكندي هو من ساهم في إدخال الفكر الفلسفي واعتمد عليه ابن رشد وابن سينا في فلسفتهم. فهل نحتاج لعالِم ومثقف من قيمة الكندي في وقتنا الراهن لتحقيق نهضة شعوبنا؟ سعيد الغماز