الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين. " الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين" الفيلسوف الكندي
يُصنَّف "روسو" في خانة الفيلسوف السياسي لكونه لم يتناول المواضيع الكلاسيكية التي تتناولها عادة الفلسفة كمواضيع الخلق وأصل العالم والميتافيزيقا. جون جاك روسو كأي فيلسوف هو ابن بيئته واستعمل آليات الفلسفة للجواب على أسئلة عصره. لكن هذه الأجوبة سيكون لها أثر كبير على العالم بأسره ولازال الفكر الإنساني يستلهم من خلاصات فلسفة "روسو". عاش فيلسوف العقد الاجتماعي أوضاعا سياسية واجتماعية في بريطانيا متسمة بالصراعات الحادة بين البرلمان وشخص الملك، وامتد الصراع ليشمل عموم الشعب البريطاني حتى أصبحت البلاد على حافة حرب أهلية. على أساس هذه الأرضية بدأت تتشكل في ذهن روسو العديد من الأسئلة من قبيل: * لماذا هذه الصراعات الحادة وما أسبابها؟ * لماذا تسود الفوارق الاجتماعية في المجتمعات؟ * ما الذي يُعيق بناء تجمع بشري يسوده السلام والحرية والعدالة الاجتماعية؟ وغيرها من الأسئلة التي يطرحها أي فيلسوف. بعد طرح هذه الأسئلة سيشرع جاك روسو في تحليل أسباب هذه الظواهر باعتماد منطق الرجوع إلى أصل الشيء والعودة إلى تاريخ نشوء هذه الظواهر وكيفية تطورها عبر العصور. هكذا إذا سينطلق "روسو" من دراسة المجتمعات الإنسانية البدائية أو المجتمعات الطبيعية كما يُسميها، لمعرفة كيف كانت تُمارَس العلاقات الاجتماعية في التجمعات البدائية وكيف تطورت لتخلق مجتمعات تسودها الفوارق الاجتماعية. يقول جاك روسو إن المجتمعات البدائية كانت مجتمعات مشاعية تسودها المِلكية الجماعية وكان الناس متساوين في الحرية. يعتبر "روسو" أن التفاوت الاجتماعي ظهر على ثلاث مراحل: -1-مرحلة بروز القانون ونظام المِلكية في المجتمعات البدائية، أي مجتمعات ما قبل ظهور الدولة وسن القوانين. هذه المجتمعات يسميها "روسو" بالمجتمعات الطبيعية أي المجتمعات ما قبل ظهور الدولة. أصبح في هذه المجتمعات فئة تملك وفئة لا تملك شيئا، وأشخاص يملكون القليل مقابل أشخاص آخرين يملكون الكثير. -2-المرحلة الثانية مرتبطة بنشوء نظام السلطة، فبرز في المجتمعات من يملك السلطة ويستقوي بها ومن لا يملك هذه السلطة ليجد نفسه ضعيفا في المجتمع. ويعتبر "روسو" أن الإذعان للقوة أو السلطة هو من مقتضيات الضرورة وليس الإرادة، ومنذ اللحظة التي يخضع فيها المرء بالقوة فإنه يستطيع أن يعصي عصيانا مشروعا. -3-المرحلة الثالثة يسميها "روسو" استبدال السلطة الشرعية بالسلطة الاستبدادية فأصبح المجتمع ينقسم إلى من يستقوي بالسلطة ومن يُعاني من تسلط أصحاب السلطة أو لنقل فئة الأسياد وفئة العبيد. ويستطرد روسو في تحليله لهذه المراحل في تشكل الفوارق الاجتماعية معتبرا أن المرحلة الأولى أفرزت الأغنياء والفقراء، والمرحلة الثانية أفرزت فئة الأقوياء بالسلطة طبعا مقابل فئة الضعفاء. ويقول "روسو" إن هذه المجتمعات لم تشكل لها هذه التطورات أي مشكلة أو معضلة بل كانت قابلة للتعايش في مجتمعات يسودها الفقراء والأغنياء وكذلك أصحاب السلطة والناس العاديين، لأن الأمر لا يعدو أن يكون تعايشا تحت سقف العقد الاجتماعي. لكن ما حصل في المرحلة الثالثة وهي المرحلة الاستبدادية هو ما كان غير مقبول ولم يتقبله الناس. فالمجتمع أصبح فيه أسياد وعبيد وهو ما يخرج عن نطاق العقد الاجتماعي الذي تخلى فيه الناس عن جزء من حريتهم لصالح الدولة مقابل توفير الأمن لهم. الناس كانوا في المجتمعات الطبيعية متساوين في الحرية وفي المرحلة الثالثة عادت المساواة للمجتمعات لكنها مساواة في العبودية، فالأفراد أصبحوا عبيدا للحاكم المستبد والحاكم أصبح عبدا لأهوائه ورغباته ولشهوة السلطة، الأمر الذي أدخل المجتمع في حالة من الفساد والرذيلة في غياب القوانين والعدل. عكس ما ذهب إليه "توماس هوبز"، يقول "روسو" إن الإنسان في المجتمع الطبيعي لم يكن يشكل عامل شر ولا عامل خير بطبعه، وإنما كان إنسانا حرا مقابل أناس آخرين أحرارا وكان الجميع متساوين في ممارسة هذه الحرية. فلسفة "روسو" اعتبرت أن هذه الحرية كانت تُمارس بشكل خاطئ والسبب في ذلك ليس الفرد وإنما المجتمع. هذا الأخير هو من يدفع بالإنسان ليكون جيدا صالحا وخيِّرا أو يجعله سيئا فاسدا إذا كان أفراد هذا المجتمع يعملون على تحقيق مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة. بمعنى أن الطبيعة خلقت الإنسان طيبا سعيدا، وأن المجتمع يفسده ويشقيه. في هذه الفترة بالذات من تطور المجتمعات، شرع "روسو" في التنظير لمفهوم جديد للعقد الاجتماعي مغاير ومتطور لما توصل له كل من "توماس هوبز" و"جون لوك". يقول "روسو" إن العقد الاجتماعي قائم على أساس تخلي الناس عن جزء فقط من حريتهم وليس عن حريتهم الكاملة عكس ما ما نجد في فلسفة "هوبز"، وعن مصالحهم الشخصية لصالح الحاكم الذي يجب عليه، مقابل هذه التنازلات من الشعب، أن يعمل بنص العقد وروحه وذلك بتوفير الأمن للجميع والعدل بين جميع أفراد المجتمع وأن يسهر على حقوق الجميع بدون تمييز. وفي حال فقدان الحاكم القدرة على تحقيق بنود العقد أو تجاوزه للصلاحيات التي ينص عليها هذا العقد، يقول "روسو" يجب إزالة أو تغيير هذا الحاكم لأن فلسفته قائمة على أساس أن الحاكم هو مجرد موظف له حقوق مقابل واجبات يجب أن يقوم بها. وفي حالة تحول الحاكم إلى مستبد فإن هذا الأمر ينتج عنه خلل في العقد الاجتماعي ويعود المجتمع للحالة الطبيعية التي تسودها الفوضى والاستبداد. "روسو" لم يقف عند هذا الحد، بل استطرد في نظريته ليخوض حتى في طريقة إزاحة الحاكم من منصبه وهي النظرية التي ستؤثر على فلاسفة من قبيل كارل ماركس و"كانط" و"فريديريك إنكلز". روسو حدد طريقتين لإزالة الحاكم: طريقة التغيير السلمية عبر التنشئة والتربية وهي الطريقة التي تبناها "كانط" في فلسفته، وطريقة التغيير بالعنف أو الثورة وهي الطريقة التي تبناها كارل ماركس في نظريته الماركسية. الفيلسوف "إنكلز" الأب الروحي الثاني للفكر الماركسي، اعتبر أن كتاب "أصل التفاوت" لجون جاك روسو شكل ذروة الفكر الديالكتيكي في القرن الثامن عشر وهو ما قامت عليه الفلسفة الماركسية على العموم. "إنكلز" درس جيدا كتاب روسو وخلص إلى أن أفضل الطرق لتغيير الحاكم المستبد هو الثورة مستشهدا بفقرات من كتاب "روسو". "كانط" من جهته، اعتبر أن الثورة ينتج عنها ثورات وتخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار والعنف يولد عنفا مُضادا، في المقابل التربية والتنشئة تُكسب الإنسان انسانيته، والتربية حسب "كانط" تقوم على أسس العقل والوعي والمبدأ الأخلاقي الصارم النابع من الضمير الإنساني. وهذه التربية الجديدة ستخلق إنسانا جديدا وستؤدي إلى مؤسسات شرعية قانونية ستخدم صلاح الجنس البشري وستوصل ولو ببطء إلى التغيير المنشود. أما "إنكلز" و"ماركس" فاعتمدوا على مقولة "روسو" التي جاء فيها أن الحاكم المستبد باق في السلطة مادام هو الأقوى، وإزاحته يبقى مرتبطا بإنشاء قوة مضادة تفوق قوة الحاكم وهو ما يصفه "روسو" بالثورة، لذلك ذهب الاثنان إلى تغليب منطق الثورة في الإطاحة بالحاكم المستبد مع تطوير نظريتهم باعتبار أن الثورة لا تقوم بين عشية وضحاها، وإنما تأتي بعمل تراكمي يقوم على أساس زيادة الوعي عند طبقة البروليتاريا. وعند نُضج الوعي الطبقي عند هذه الأخيرة تصبح قادرة على القيام بالثورة ضد البرجوازية والرأسمالية للوصول إلى ما يُسميه "ماركس" بديكتاتورية البروليتاريا التي ستزيل النظام الرأسمالي لإقامة النظام الشيوعي كما جاء في النظرية الماركسية.