الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين. " الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين" الفيلسوف الكندي
في الحلقة السابقة، تطرقنا للمنابع الفكرية لفلسفة يعقوب بن إسحاق الكندي، وتطرقنا كذلك للأسباب التي جعلته يوصف بلقب فيلسوف العرب الأول. في هذه الحلقة سنتطرق لنظرية المعرفة عند الكندي. يقول الكندي إن هناك ثلاثة أنواع من المعرفة وكل نوع له مجاله وموضوعه المُختص به: أول نوع هو المعرفة الحسية وهي المعرفة التي نُدركها بالحواس وموضوع هذه المعرفة هو العالم المادي الطبيعي أي كل ما يمكن إدراكه بحواسنا عبر السمع والرؤية واللمس. النوع الثاني هو المعرفة العقلية، وهي المعرفة التي لا يُشترط للوصول إليها أن تكون مُتَشَيِّئَة أي مادية بل هي معرفة تحتاج إلى العقل للوصول إليها كعلم المنطق مثلا والرياضيات والهندسة وغيرها من العلوم التي نصل إليها عن طريق العقل من غير أن تكون مُتَشَيِّئَة. والنوع الثالث هو المعرفة الإلهية وموضوع هذه المعرفة هو الله والدين والشريعة. ويَعتبر الكندي أن هذه المعارف الثلاثة لها مصدران: المصدر الإلهي ويقصد به الوحي وهو مصدر يقيني بحسب الكندي، ويقدم معرفة يقينية لسبب بسيط هو أنها معرفة صادرة عن الله. المصدر الثاني هو إنساني ويقصد به الكندي العلم والمعرفة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان بنفسه وبذاته، وذلك من خلال طريقين هما الحواس والعقل¹. على هذا الأساس نكون أمام حقيقتين: حقيقة دينية وحقيقة إنسانية. هل هذه الحقائق هي في متناول كل الناس، أي الكل يمكنه الوصول لهذه الحقائق؟ يُجيب الكندي بالنفي ويقول إن الحقيقة الدينية هو أمر إلهي محض يختص الله به فئة مجددة من البشر، وهو يمر عبر تهييئ فئة من الناس بقدرة من عنده لتلقي هذا العلم وهم الأنبياء، فليس كل الناس قادرين على الوصول لهذه الحقيقة الدينية. أما الحقيقة الإنسانية فهي بدورها يقول الكندي، ليست مُتاحة لكل الناس. فطريق الوصول لهذه المعرفة الإنسانية هو طريق شاق يتطلب البحث عن العلم والمعرفة والعقل للوصول إليها، وهذه كما يرى الكندي هي مهمة الفيلسوف ولا يقدر عليها عامة الناس. على هذا الأساس يعتبر الكندي أن الفيلسوف قادر بما يملك من علم ومعرفة وطُرق بحث وآليات التفكير ووسائل المنطق، قادر على الوصول إلى المعرفة أو الحقيقة الدينية من خلال العقل أي من دون مساعدة الوحي. فالفيلسوف بما يملكه من معرفة قادر على إثبات وجود الله، وإثبات وحدانية الخالق وعدله وغيرها من الحقائق الدينية. وفي نفس الوقت، يميز الكندي بعض الحقائق الدينية التي لا يمكن أن يصل إليها الفيلسوف وأن الطريق الوحيد للوصول إليها هو المصدر الإلهي أي الوحي، ونحن نُسلم بها لأنها حقائق دينية من مصدر إلهي. ويدخل في هذه الحقائق الدينية القضايا الغيبية كالبعث بعد الموت، عالم الآخرة، وجود الملائكة، الصراط، وغيرها من الحقائق التي لا يمكن للعقل أن يتوصل إليها بذاته دون الوحي الإلهي. وبذلك نجد أن الكندي أعطى دورا كبيرا للعقل في الوصول إلى المعرف، لكنه في مقابل ذلك أبقى على مكانة والدور المحوري للدين. من هنا يمكن أن ندخل للمشروع الكندي الذي حاول فيه التوفيق بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية. ويقوم هذا المشروع على وحدة الهدف بين الفلسفة والدين، بمعنى وجود هدف موحد بين العقل والوحي. فالفلسفة يقول الكندي هي إدراك الحقيقة، والدين يُعلم الإنسان ما هو الحق. وبالتالي هناك وحدة في الهدف حسب فلسفة الكندي. إذا كان الكندي وحَّد بين الدين والفلسفة في الغاية أو الهدف أي بين الوجود والمعرفة ¹، نجده فَرَّقَ بينهما في الوسيلة للوصول إلى هذا الهدف. فالحقيقة الدينية وسيلتها هو الوحي، أما الحقيقة الفلسفية فوسيلتها هو العقل والجهد الفكري. ليخلص الكندي إلى أن العلاقة التي تجمع بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية هي علاقة تكامل وانسجام وتطابق وليس علاقة تعارض أو تناقض. وعلى حد قول الكندي الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية كما سبق. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين. مشروع الكندي هذا في التوفيق بين الدين والوحي أو لنقل بين العقل والنقل سيكون وراء مفهوم "ثُنائية الحقيقة" الذي سنجده في فلسفة الكثير من المفكرين وفلاسفة العصر الإسلامي.