الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين. بعد أن تطرقنا في الحلقة الماضية باختصار وتبسيط لموقف أرسطو من فلسفة أستاذه أفلاطون، سنشرع في طرح نظريات أرسطو الفلسفية. لكن قبل ذلك سنتحدث باقتضاب شديد عن تقسيم أرسطو للعلوم. فقد ميز بين صنفين أساسيين من العلوم: العلوم النظرية وجمع فيها الميتافيزيقا (الفلسفة) والرياضيات والطبيعيات. الصنف الثاني هي العلوم العملية وجمع فيها الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل. يصف أرسطو هذه العلوم بالعملية لأنها ترتبط بسلوك الفرد في الحياة اليومية وليس مُهِما فيها معرفة المبادئ النظرية المجردة. وتجدر الإشارة إلى أن أرسطو أشار إلى صنف ثالث من العلوم أسماه العلوم الإنتاجية أو التخيلية كالشعر والموسيقى وغيرهما من الفنون، إلا أنه لم يفصل الحديث بعد ذلك إلا في فن الشعر. بخصوص فلسفة أرسطو حول الحقيقة، فهو يرى أنها متكونة من أشياء متعددة ومُختلفة، وإذا أخذنا كل حقيقة بشكل منفصل سيتضح لنا، حسب فلسفة تلميذ أفلاطون، أنها متكونة من شكل ومادة، وستكون هذه الثنائية في تحديد الحقيقة، الأساس العلمي الذي تقوم عليه فلسفة أرسطو. المادة هي ما يتكون منه الشيء، فيما الشكل هي الميزات الخاصة النوعية. لتفسير هذه النظرية، تطرق أرسطو لمثال الدجاجة التي يقول عنها أنها تُصفق بجناحيها وهو ما يعني حسب رأيه، أن شكل الدجاجة يُفيد بأنها تُصفق بجناحيها. إضافة إلى التصفيق فإن الدجاجة تُقاقي وتَبِيض وهو ما يعكس الميزات المرتبطة بشكلها. بعد موت الدجاجة، تتوقف عن النقنقة والتصفيق بجناحيها ويتوقف شكلها ولا يبقى منها سوى المادة وهو ما يُفقدها صفة الدجاجة. أما بيضة الدجاجة فهي دجاجة كذلك، وإن كان الواقع يُفيد أنه ليس كل البيضات تُصبح دجاجة باعتبار أن الكثير من البيض ينتهي على مائدة أكل الإنسان، وهو الأمر الذي لا يسمح بتحول البيضة إلى شكل دجاجة. لكن أرسطو يمضي في تعليل نظريته بالقول إن البيضة التي انتهى بها المطاف في مائدة الأكل لن ينتهي بها المطاف أبدا في أن تكون بطة أو إوزة لأن هذه الإمكانية ليست متوفرة في هذه البيضة أصلا، فشكل الشيء هو الذي يدلنا على ما سيكون عليه هذا الشيء. بعد ذلك يتطرق أرسطو لدور الشكل والمادة في تحديد كيفية تمييز الإنسان للأشياء التي يجدها في العالم المحسوس بحيث يتم ترتيب الأشياء في مجموعات وفصائل متنوعة. فحين نرى حصانا ثم حصانا ثانيا وثالثا، نلاحظ أنه ليس كل الأحصنة متشابهة ولكن هناك شيء مُشترك فيما بينها. عنصر التشابه يكون في تحديد شكل الحصان، أما ما يُميز حصانا عن حصان آخر فهو يرجع إلى المادة التي تُكَوِّن هذا الحصان، وهذه هي حقيقة ما هو موجود في عالمنا المحسوس. فالإنسان يقوم بترتيب وتصنيف الأشياء بحيث يضع البقر في المزارع والخيل في الاسطبل والإنسان في المنزل، ويميز بين الأشياء المصنوعة من الحجر والمصنوعة من الصوف أو الطين، ويميز بين الأشياء الحية والأخرى الجامدة، ويُميز كذلك بين الحيوانات والنباتات والإنسان. فلسفة أرسطو تطرقت كذلك لقضية العلاقة بين النفس والجسم، وقضيت العلاقة بين أنواع الكائنات الحية. هذه الأفكار انتهت به إلى تحديد العناصر التي تجعل الإنسان يتميز عن الحيوان والنبات. في هذا الباب يعتبر أرسطو أن أنواع الكائنات الحية "تكتسب تميزها وصفاتها المميزة من الوظائف التي تمارسها النفس داخل الجسم، إذ لا يختلف النبات عن الحيوان عن الإنسان إلا بهذه الوظائف. فالنفس في جوهرها واحد في كل هذه الكائنات، ويبدو الاختلاف بينها من أنها تقتصر في وجودها في النبات على ممارسة وظائف التغذي والنمو والتوالد، وتضيف عليها في الحيوان وظيفة الإحساس، ويضاف إلى هذه الوظائف الأربع وظيفة التفكير العقلي في الإنسان." لأرسطو كذلك نظرياته الفلسفية في المجال السياسي. ويبني نظريته في الفلسفة السياسية انطلاقا من مقولته الشهيرة "الإنسان حيوان اجتماعي" ويعتبر أن الإنسان لا يكون بشرا حقيقيا دون انتمائه للمجتمع. فالأسرة والقرية والمدينة هي التي توفر جميع المتطلبات الأساسية للحياة كالغذاء والدفء والزواج وتربية الأطفال على سبيل المثال. أما الشكل الأعلى للمجتمع فلن يكون سوى الدولة، وفي هذه النقطة يُحدد أرسطو ثلاثة أشكال ناجحة للدولة: شكل أول يكون فيها رئيس واحد وهو شكل في اعتقاد أرسطو يجب أن يكون صالحا وغير خاضع للطغيان وهو الأمر الذي يتحقق حين يكون الرئيس الواحد لا يُوجه أمور الدولة لخدمة مصالحه الشخصية. الشكل الثاني يتحدد في الدولة الأرستقراطية حيث نجد في هذا الشكل أعدادا متفاوتة من المسؤولين ولكي يكون شكلا ناجحا يجب ألا تتحول الدولة إلى لعبة في أيدي مجموعة من الحكام أو المسؤولين. الشكل الثالث يُسميه أرسطو بالدولة الديمقراطية، لكنه يقول إن هذا الشكل هو أيضا يمكن أن يتعرض لمخاطر تتجلى في تحول الدولة من الديمقراطية إلى الدولة الشمولية. تطرقت فلسفة أرسطو إلى الوجود وأصل الكون، بحيث يعتقد أن للكون مُسير يجعله في حالة حركة دائمة ويقول إن حركة النجوم والكواكب تُسيطر على حركة الأرض وإنه لا بد من وجود قوة تُسيطر على حركة النجوم والكواكب. هذه القوة يُسميها أرسطو بالمُحرك الأول وهو محرك ثابت ولا يتغير لكنه يبقى هو المصدر لكل حركة الطبيعة. لأرسطو فلسفته في الحياة، فهو يقول إن السعادة تتحقق بتنمية جميع القدرات الكامنة في الإنسان، وتتحقق السعادة كذلك حين نؤدي وظيفتنا ونتصرف التصرف السليم. يُميز أرسطو بين ثلاثة أنواع من السعادة: الأول يتحدد في أن الحياة هي مُتعة وتسلية، والثاني هو أن تعيش كمواطن حر ومسؤول، والثالث هو أن تعيش كعالم وفيلسوف. ويقول أرسطو أن هذه الأنواع الثلاثة يجب أن تتوفر وتجتمع في الإنسان لكي يعيش حياة سعيدة. الوسطية والتوازن تتضح جليا في فلسفة أرسطو حين يتطرق للعلاقة التي تحكم الناس داخل المجتمع، ويعتبر أن الفضيلة الأخلاقية تتحقق بتحاشي التطرف في السلوك وإيجاد الحد الوسط بين النقيضين. فهو يقول إن الإنسان يجب ألا يكون جبانا أو متهورا، وإنما يجب أن يكون شُجاعا ويعتبر أن القليل من الشجاعة هو جبن والكثير منها هو وقاحة وتهور بدون فائدة. تحديد الحد الأقصى والنقيض له ثم البحث عن التوازن بين النقطتين هو جوهر فلسفة أرسطو في تحديد العلاقات الاجتماعية. على نفس المنوال يقول أرسطو إن الإنسان لا يجب أن يكون بخيلا كما لا يجب أن يكون مبذرا، وفي بحثه عن نقطة التوازن لكي يظل وفيا لمنهجه النظري، يقول أرسطو إن الإنسان يجب أن يتحلى بصفة الكرم. ويستطرد قائلا إن القليل من الكرم يكون بُخلا والكثير منه يكون كمثل رمي النقود من النافذة، هذه النظرية يُطبقها أرسطو على الأكل كذلك حيث يعتقد أن الإنسان يتعرض للخطر في حال الاكثار من الأكل أو التقليل منه على حد سواء، ويقول إننا يجب أن نعيش بتوازن واعتدال، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الإنسان يعيش في سعادة. مهما بلغت فلسفة أرسطو من أهمية وتأثير على الفكر الإنساني الذي امتد على مر العصور وظل قائما في عصرنا الحالي، فهذا لا يمنع أن تكون لأرسطو بعض النظريات التي تجاوزها الفكر الإنساني كنظرته للمرأة. فأرسطو يعتبر المرأة منقوصة وأنها رجل غير كامل. وبخصوص العلاقة البيولوجية بين الرجل والمرأة تكون المرأة سلبية ومتلقية عكس الرجل الذي يكون إيجابيا ومعطاء. والطفل الذي يمكن أن ينتج عن هذه العلاقة البيولوجية يرث فقط صفات الأب لاعتقاده أنها صفات تكون متوفرة في مَنِيِ الرجل فقط. كما يُشَبِّه أرسطو المرأة كقطعة أرض تكتفي بتلقي البذور وتتركها تكبر، والرجل هو ذاك الفلاح الذي يزرع تلك البذور ليخلص إلى كون الرجل يُعطي الشكل والمرأة تُعطي المادة. بطبيعة الحال هذه التصورات أصبحت غير ذي موضوع في وقتنا الحاضر، لكنها في عصر أرسطو عصر القرن الرابع قبل الميلاد كانت هذه التصورات تعكس حقبة عصر أرسطو وتُشكل ثورة معرفية في ذلك الوقت.