بعد الحديث عن تطور المفهوم من "المساواة" إلى النوع "gender"، وتعريف مقاربة النوع "gender" نستأنف الحديث عن مرتكزات المقاربة، وفيما يلي عرض لها. ثالثا: مرتكزات فلسفة مقاربة النوع "gender": لا يمكن إدراك فلسفة مقاربة النوع "gender" وأهدافها إلا بربطها بمرتكزاتها الهادفة إلى ضرب المرجعية الإسلامية وإحلال المرجعية الغربية مكانها، ولذلك فهناك منطق مركزي يحكم هذه المرجعية، ويلقي بضلاله على هذه الفلسفة، وهو أولا: الفردانية، وثانيا: منطق التماثل بين المرأة والرجل والذي يشتغل عبر آليتين: انعدام التمييز بسبب الجنس، والمساواة، ثم ثالثا: المثلية الجنسية، رابعا: التمكين الذاتي للنساء. أولا : الفردانية. أخطر ما يميز هذه الفلسفة: "الفردانية"، لأنها تتعامل مع المرأة على أنها فرد من المجتمع بمعزل عن الطفل والزوج والأسرة، "وذلك بإخراجها من سياقها الأسري والاجتماعي، على أنها كيان منفرد في الإرادة والنظام الحياتي والأهداف،"1 وهذه النظرة التفكيكية والتجزيئية ما هي إلا البدايات الاولى لتفكيك المجتمع، وهي أخطر من المذهب الذي "شهدته أعتى الفلسفات التي نادت بالحرية الفردية، حتى المذهب الوجودي الذي نادى سارتر من خلاله بأعلى درجات حرية الفرد لم يخل من ارتباط الحرية بالمسؤولية، وكلمة المسؤولية تعني وجود أشخاص آخرين في حياة الفرد تكون المسؤولية تجاههم".2 وإذا كانت الفلسفة الوجودية ترى أن الآخر كائن غير مستحب إلا أنها أقرت بوجوده والاعتراف بالمسؤولية تجاهه، لكن فلسفة الجندر القائمة على مرتكز الفردانية "تعدت هذه المرحلة لتحول المجتمع إلى أفراد غير مرتبطين، ولا تترتب حياة الواحد منهم على حياة الآخر، ولا تلتقي معها أو تحسب لها حساب،"3 ومن هنا يمكن أن نفهم مطالب المنظمات النسائية لتعديل المدونة بإلغاء الولاية في الزواج، الذي لم يكن يعي غير المرأة، وكذلك الحقوق التي تطالب بها دون استعراض الإطار الشمولي لهذه المطالب، وهذه النظرة ذات المرجعية الغربية، لا يمكن أن تنتج لنا إلا نموذج الفرد الغربي الذي نراه اليوم تجسيدا حيا لمأساة إنسان ما بعد الحداثة، ف"الرؤية الإسلامية في قضية حاجة الفرد رجلا كان أو امرأة إلى توازن كيانه الفردي مع كيانه الاجتماعي… يعطي للمرأة حقا فرديا مطلقا في التعامل مع دخلها المالي سواء كان إرثا أو مرتبا شهريا أو مصدر دخل آخر دون تطفل من أفراد أسرتها، فليس لأحد حتى زوجها، وأبيها مشاركتها فيه، أو سؤالها فيم تنفقه. ولكن هذه الإرادة المنفردة يقترن في موضع آخر بالمسؤولية تجاه الآخرين …"،4 فيما يتعلق بالإنجاب أو بمنع الإنجاب، واتخاذ تدابير هذا العمل سرا دون موافقة الزوج أو ضرورة شرعية، وهكذا نجد النظرية الإسلامية تقوم على توازن فريد بين ما هو فردي وما هو جماعي مجتمعي في الحياة، فلا يُغلب حقوق الفرد على حقوق المجتمع، ولا حقوق المجتمع على حساب الفرد، و إنما يتبنى التوازن بينهما، و يتأسس على الاعتماد المتبادل بين أفراد المجتمع … وينطبق ذلك أفضل انطباق على الذكر والأنثى من أفراد المجتمع.5 ثانيا : التماثلية. وهو القول بتماثل الرجل والمرأة، ويشتغل عبر آليتين: -الأولى: انعدام التمييز ضد النساء بسبب الجنس. -الثانية: المساواة بين الجنسين. لقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ: 7 نونير 1969 إعلانا أطلق عليه: "إعلان القضاء على التمييز ضد النساء"، ويحيل في ديباجته على ما قرره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حول عدم التمييز في الحقوق والحريات بسبب الجنس، ويتم التأكيد على "أن التميز ضد المرأة يتنافى مع كرامة الإنسان وخير الأسرة والمجتمع". بعد الديباجة يسطر "إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة" في المادة الأولى: "إن التمييز ضد المرأة بإنكار وتقييد تساويها في الحقوق مع الرجل يمثل إجحافا أساسيا ويكون إهانة للكرامة الإنسانية". وجاءت المادة الثانية من نفس الإعلان لتؤكد على ضرورة اتخاذ "جميع التدابير المناسبة، لإلغاء القوانين والأعراف والأنظمة والممارسات القائمة التي تشكل تمييزا ضد المرأة". فماذا يعني إذن مصطلح "التمييز ضد المرأة"؟ وقد كثر استعماله في الخطاب النسائي وتنتقد المدونة على أنها تؤسس للتمييز بين الجنسين، تقول "زينب معادي" متحدثة عن المدونة: "بأنه لا يتأرجح بين المساواة والميز ولكنه يؤسس أفضع أشكال الميز…"6 فالمفهوم الأولي لمفردة "التمييز" من خلال المرجعية الإسلامية تدل على أنه إذا كان هناك موجودان بمستوى واحد، بحيث ليس بينهما أي اختلاف وجودي ثم منحنا أحدهما امتيازا بالمقارنة مع الآخر نكون قد وقعنا بالتمييز"7 إلا أن التوظيف النسوي لهذا المصطلح وكذلك المواثيق الدولية لا يهدف بالأساس إلى رد الاعتبار وإقرار العدل، انطلاقا من المرجعية الإسلامية وإنما يطالبون بحقوقهم وفق المرجعية الكونية، وإقرار الحقوق كما هو متعارف عليه دوليا، وقد حاولت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الصادرة عن الجمعية العامة بتاريخ دجنبر 1979م، إعطاء تعريف لمصطلح التمييز: فنصت في مادتها الأولى على أن "…( التمييز ضد المرأة )أي تفرقة أو استعباد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل…" وبهذا أعطت الاتفاقية مدلولا واسعا لمصطلح "التمييز ضد المرأة بحيث يشمل كافة أنواع التمييز ضد المرأة، مما يعطي المرأة الحماية سواء فيما يتعلق بالاعتراف لها بكافة الحقوق التي يتمتع بها الرجل، أو فيما يتعلق بتمتعها بتلك الحقوق وممارستها لها…"،8 بمعزل عن الرجل والطفل والمجتمع، تطبيقا للمرتكز الأول "الفردانية" الذي سبقت الإشارة إليه بل "بصرف النظر عن حالتها الزوجية" كما ورد في المادة السالفة الذكر. وهذا المفهوم يعني المطابقة وبالتالي "يحمل دلالة منطقية ورياضية يمكن التعبير عنها بالشكل التالي: المرأة = الرجل، كما أنه يستعمل أحيانا… كشعار، وكمطلب سياسي وليس كمفهوم له دلالة سوسيولوجية مجردة ومحددة"،9 مما مهد لظهور فكرة مرتبطة بها: إعادة النظر في تقسيم الأدوار، وذلك بتجاوز ثنائية ذكر/أنثى، وظهور مفهوم جديد للأسرة،10 والتي لا تكون بالضرورة خلية ناتجة عن علاقة زواج ذكر وأنثى، بل تتخذ أشكالا أخرى. 2-المساواة بين الجنسين: إن منطق التماثل والمساواة مبني على نفي الفروقات بين الرجال والنساء، مما يقتضي تقرير حقوق المرأة ذات الطابع السياسي، والاقتصادي والاجتماعي على قدم المساواة مع الرجل، فالمادة العاشرة من إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة تسطر ضرورة اتخاذ "جميع التدابير المناسبة لكفالة تمتع المرأة متزوجة، وغير متزوجة بحقوق متساوية لحقوق الرجل في ميدان الحياة الاقتصادية والاجتماعية …" ومنطق التماثل هذا المتجسد في اعتماد مبدأ المساواة في الحقوق يترجمه البند الثامن من نص الوثيقة الختامية لمؤتمر بكين، الذي يقرر "تساوي النساء والرجال في الحقوق والكرامة والإنسانية المتأصلة، وسائر المقاصد والمبادئ المنصوص عليه في ميثاق الأممالمتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولاسيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة." إن فكرة المساواة من خلال هذه الوثيقة المرجعية تنبني على مسلمة أن الفروق البيولوجية أو الفيزيولوجية بين الجنسين لا وجود لها، بل يتم رفض هذا التمييز لأنه تمييز يكرس اللامساواة بين الجنسين. تقول فاطمة المرئيسي :" لم أكن أبدا امرأة، لكن دوما إنسانا، إن الآخرين هم الذين يريدون أن أكون امرأة، لكن أنا لا أتجزأ، أنا أنظر إلى العالم كإنسان بأنوثتي، بذكائي، برغبتي في السعادة والإبداع، والمشكل يأتي من أن المجتمع يريد أن ينظر إلي كأجزاء يمزقني، يختزلني فيما يسميه المجتمع بالمرأة…"،11 هكذا ترى أن تقسيم الجنسن إلى ذكر وأنثى يرجع إلى نظرة المجتمع وإلى العوامل الثقافية، وباختصار إلى الثقافة (وليس إرادة الخالق) وهي الخلفية المركزية في اللامساواة بين الجنسين في الماضي والحاضر. وفي هذا الصدد تتبنى اطروحة "بلتون" وتستشهد بها قائلة: "كل المجمعات تفرض على الجنسين مواقفا ومهاما متباينة وأغلبها تحاول عقلية هذه الفوارق بالارتكاز على الخلافات الفيزيولوجية بين الجنسين أو دورها المختلف في عملية إعادة الإنتاج، ولكن دراسة مقارنة للأدوار المتوسطة للجنسين في الثقافات المختلفة تبرز أن العوامل السابقة الذكر قد تكون نقطة البداية في توزيع هذه الأدوار، ولكن الثقافة السائدة هي التي تحدد في الواقع نسبتها للمرأة أو الرجل وتتباين الخصائص النفسية المنسوبة للرجال والنساء في المجتمعات تباينا كبيرا هي الأخرى إلى حد كونها ترتكز على تبريرات فيزيولوجية واهية".12 وهكذا نجد أن المطالبة بالمساواة تتأسس على نفي الفروقات الطبيعية، أو المختصة بالأدوار الحياتية بين الرجال والنساء، والإدعاء بأن أي اختلاف في الخصائص والأدوار من صنع المجتمع (SOCIALLY CONSTRUICTED ) وهو نتاج نظرية "الجندر" التي أوردناه سلفا.13 ويسعى منظور "الجندر" إلى تقويض كل دليل يدل على وجود عنصر الطبيعة كعامل للتمييز بين الرجال والنساء، واستمرار هذه الفروقات في توزيع الأدوار بين النساء والرجال في المجتمع، ومن مقولات ناشطات "الجندر" "بيلا أبزوج" في محاضرة ألقتها في الجلسة التحضيرية لمؤتمر بكين، يوم: 03 أبريل 1995م إن "فكرة الطبيعي لا تعبر عن قيمة إنسانية ذات بال الآن، الإنسانية بدأت في تخطي الطبيعة، فلن تحتاج بعد اليوم إلى تبرير التمييز الطبقي بين الجنسين على أساس طبيعي، فيجب علينا لأسباب برجماتية حتمية أن نتخلص من مفهوم الطبيعة هذا"،14 وهنا اعتراف بأن إقصاء عنصر الطبيعة ليس لأنه فعلا وهميا غير موجود، ولكن لأسباب نفعية برجماتية انتهازية تستدعي ذلك، وتؤكد الكاتبة قائلة: "لن نعود مرة أخرى لنخضع لفكرة أن القدر البيولوجي وحتميته يحصر المرأة داخل صفات متعلقة بجسدها وجنسها، لذلك فنحن نستخدم كلمة "جندر" "gender" بدلا من "جنسين" "sex" للدلالة على حقيقة الرجل والمرأة من صنع المجتمع "socielly" ومن الممكن تغييرها".15 إن فكرة المساواة التي تنطلق من نفي القدر البيولوجي والطبيعي لإثبات المساواة المثلية بين الذكر والأنثى، يجعل هذه النظرية ذات المرجعية الغربية في تصادم مع المرجعية الإسلامية، التي تأخذ بعين الاعتبار هذه الفروقات، وتبني عليها الحقوق والواجبات، وتوزيع الأدوار في المجتمع، "فالمماثلة تكون في الحقوق والواجبات وليس بين الأنوثة والذكورة، وينتج عن ذلك "مساواة التكامل" بين الذكر والأنثى على النحو الذي يطمس التمايز الفطري بين الذكورة والأنوثة ، والتي هي سر شوق كل شق إلى الآخر، والسبب في سعادة كل نوع لما يتميز به ويمتاز عن الثاني…فهي مماثلة الشقين المتكاملين لا الندين المتطابقين. وأيضا فإنها ليست المماثلة المادية ولا العددية في الحقوق والواجبات، وإنما مماثلة الاشتراك في النهوض برسالة الاجتماع الأسري وفق المؤهلات الفطرية التي تمايز ما بين الإسهامات، لكن في ذات الإطار، وتراعي التنوع في إطار ذات التكاليف، وفي درجات ذات الصفات والملكات، وهو تنوع قائم بين النوعين الذكور والإناث، وليس بين كل فرد وآخر من أفراد النوعين".16 المصادر والمراجع: 1- تحرير المرأة العربية فلسفة الجندر، ص:528. 2- المرجع السابق، ص:529. 3- المرجع السابق. 4 – المرجع السابق. 5- أنظر: قضايا دولية المؤتمر العالمي الرابع للمرأة عدد خاص، رقم:300، السنة: 1995م، ص: 31. 6- المرأة بين الثقافي والقدسي، زينب معادي، ط: 1992م، مطبعة النجاح الجديدة، ص:32. 7- العلاقة المتبادلة بين الفقه وحقوق الإنسان: قضايا المرأة المسلمة نموذجا، حوار محمد البجنوردي، مجلة "الحياة الطيبة"، ص:238. 8- حقوق المرأة في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، عبد الغني محمود، ص:46 ط: 1411/1ه/199م، دار النهضة العربية، القاهرة. 9 الخطاب النسائي في المغرب نموذج فاطمة المرنيسي، أحمد شراك، ص: 27 ط. 1- 1990م، أفريقيا الشرق. 10 سيأتي الحدي عن هذا في المرتكز الثالث المثلية الجنسية. 11- الجنس كهندسة اجتماعية، فاطمة المرنيسي، ص: 19. 12- نقلت هذا الإستشهاد من: -CONTRYF GO1936, P : 116APPLATION , LONDRAD,RALPHLINYON THE STUDY OF MAN 13- أنظر الصفحة: 30-31. 14 – نقلا عن: تحرير المرأة العربية، فلسفة الجندر نموذجا، ص:531. 15- المرجع السابق، ص: 531. 16- التحرير الإسلامي للمرأة الرد على شبهاة الغلاة، د. محمد عمارة، ص: 29 – 1-1421ه/2002م دار الشروق