في عز الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت شظاياها تصيب المملكة وتهدد التوازنات المالية، وفي الوقت الذي يحتاج فيه البلد لتظافر كل جهود أبنائه لمقاربة الأزمة مقاربة علمية تقلص من تداعياتها السلبية وتحد من خسائرها المحتملة، تخرج علينا قيادات سياسية بخطاب بئيس يحرف النقاش عن صلب الموضوع ويشغل الرأي العام بجزئيات لا تقدم ولا تؤخر. فالسيد حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، الحليف الثاني والأساسي في حكومة السيد بنكيران، يصوب مدافعه تجاه الحكومة، ويطلق قنابل صوتية فارغة، آخرها ما لاحظه فضيلته حول لباس خادمات في بيت رئيس الحكومة عليه رمز المصباح، وهو ما يتناقض مع الحياد المفروض، وعدم استغلال مثل هده الأماكن المخصصة لاستقبال الضيوف لأية دعاية حزبية. لقد كان بإمكان السيد شباط أن يهمس في أذن رئيس الحكومة ليثير انتباهه لكذا مخالفة، دون تشويش أو ضجيج أو جعجعة بدون طحين، لكن صاحبنا اختار مند أول يوم أن يضع رجلا في الحكومة وأخرى في المعارضة، ظنا منه أن هذا هو الأسلوب الأمثل للاستفادة من بركات الحكومة إذا هي نجحت، دون التفريط في شرف المعارضة هذا هي فشلت؛ وقد فات السيد شباط أن المغاربة يرقبون تحركاته، وهم حريصون على نجاح أول حكومة اختاروها دون تدخل للإدارة، وهم ممتعضون من تلك التحركات والعراقيل الصادرة عنه، بدليل ارتفاع شعبية رئيس الحكومة في آخر استطلاعات الرأي، وربما يعاقبون حزب الاستقلال في أول انتخابات مقبلة إذا استمر أمينه العام في اللعب على الحبلين. لو كان السيد شباط مهتما بظروف الخادمات لرفع صوته احتجاجا على قتل خادمة بأكادير على يد مشغلتها حرقا بالنار، وهو الذي زار المدينة في نفس ظروف الفاجعة التي اهتز لها الرأي العام. قبل انتخابه على رأس الأمانة العامة لحزب الاستقلال، كان السيد شباط يصرخ في وجه العفاريت والتماسيح، لكنه قلب المعطف بمجرد وصوله لرئاسة حزب المناضل الكبير علال الفاسي، وكأنه يبعث برسائل لمن اتهمهم بالأمس بالزج بأبنائه في قضية مفبركة من أجل إسكاته، رسائل مفادها أنني اليوم في صفكم ضد هذا الذي يزعجكم، فارفعوا عني أيديكم. النموذج الثاني من مكبرات الصوت السياسية هذه الغريبة التي جادت بها هذه السنين العجاف، السيد ادريس لشكر أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي، فمنذ العطب الذي أصابه في المؤتمر الأخير للحزب وهو يحاول أن يرحل أزمة حزب معطوب إلى الخارج، ويوظف خبرته في المحاماة لتحريف الكلم عن مواضعه، وإشغال الرأي العام بقضايا تافهة لا تقوم على أساس، آخرها انتفاضته ضد وزير العدل والحريات السيد مصطفى الرميد لأنه خاطب مضربة عن العمل بلغة “الحلال والحرام”. ثارت ثائرة الحارس الجديد لقيم الوثنية الحداثية، ليعتبر خطاب وزير العدل والحريات خطيرا ومخيفا يهدد مستقبل البلاد، لا يمكن السكوت عنه، فليست الأزمة الاقتصادية العالمية التي تهدد البلاد، بل هو إحياء المصطلحات الرجعية، فما دخل الحلال والحرام في السياسة والإدارة؟ ما دخل الحلال والحرام في الحكم على أقوال الناس وأفعالهم؟ إذا كان السيد وزير العدل ما زال متأثرا بخطاب الوعظ والإرشاد، فما عليه إلا أن يبحث له عن منبر في مسجد أو مدرسة عتيقة، ويترك الوزارة والإدارة لأهلها؛ فلن يسمح حراس الوثنية الحداثية بعد اليوم بالعودة إلى المصطلحات الرجعية، وعلى المسؤولين الجدد الدين يصدرون في خطابهم عن مرجعية ظلامية أن يقيموا دورات تكوينية للمناضلين في صفوفهم من أجل الملائمة : ملائمة مصطلحاتهم مع المرجعية الكونية الحداثية. لن يسمح بعد اليوم لمسؤول سياسي أن يخاطب الناس في إدارته بأسلوب الحلال والحرام، مرفوض بعد وصول حراس الوثنية الجديدة إلى المعارضة أن نسمع من مسؤول سياسي مثل قوله لمن أصاب: “جزاك الله خيرا” أو “الله يرحم الوالدين” أو ” رزقك حلال عليك”…أو قوله لمن سرق أو أخد رشوة: “حرام هادشي”، ” الله غادي يحاسبك”، “أنت تأكل الحرام”… مشكلة الحداثيين أنهم لم يتابعوا تطور الخطاب الإسلامي، حتى فوجؤوا بأن هذه الحكومة نصف الملتحية غير مهتمة كثيرا بما كانوا هم يظنونه من أولوياتها، فقد كانوا يراهنون على أن تدخل حكومة الإسلاميين في معارك وهمية مع الفنانين والمبدعين والمخمورين والعراة في الشارع العام وعلب الليل والكازينوهات، ليستنزفوها في تلك المعارك، ويتهمونها بالتكفير والتحريض على التفجير، ثم يسقطونها أمام الرأي العام الذي له انتظارات أخرى على أساسها تعاقد مع حكومة ما بعد الربيع العربي. وقد حاولوا إثارة هذه الحكومة بحسب فهمهم المعوج، فكان أول اختبار بليد منهم أن رموا في طريقها في البداية سيقان “لطيفة أحرار”، فلما لم تلتفت إليها رموا بقضية الحريات الجنسية والأمهات العازبات، وآخر تخريجة بليدة تلك الصدور العارية احتجاجا ونضالا؛ فلما تبين لهم أن الحكومة جادة في فتح الملفات الضخمة مثل إصلاح صندوق المقاصة وإصلاح صناديق التقاعد وإصلاح منظومة العدالة والإصلاح الضريبي، ومواجهة الفساد والاستبداد، أخرجوا لها العفاريت والتماسيح التي كانت تختبئ وراء سيقان ونهود المستضعفات الباحثات عن لقمة عيش، حرمن منها من جهة الكرامة والعزة. الإسلاميون يدركون أن المغاربة مسلمون بالفطرة، لكن اللصوص الكبار فتنوهم عن دينهم لما أكلوا دنياهم، وألجؤوهم إلى بيع أعراضهم أو الارتماء في أحضان الخمر والمخدرات من أجل نسيان همومهم؛ الإسلاميون يدركون أن العلاج الجذري للاختلالات الأخلاقية يكون بالتوزيع العادل للثروة، بإقامة قضاء مستقل، بمنح العلماء مساحة من الحرية تسمح لهم بتأطير الناس في المساجد وغيرها، بتصحيح صورة الإعلام الذي يسوق العهر والابتذال، بتصحيح مسار التعليم الذي ينتج البطالة، بمنازلة العفاريت والتماسيح الذين يرفضون أن يتقاسموا والشعب إكراهات الأزمة الاقتصادية، ويريدون أن يعيشوا دائما فوق الأزمة، لأنهم لم يتعظوا بالربيع العربي.