رغم مرور أزيد من 15 سنة عن الاعتماد الرسمي لأبجدية تيفيناغ ما يزال الخلاف حول هذا الموضوع يشكل إحدى العقبات التي تعوق التقدم في المسار التشريعي المتعلق بالقانون التنظيمي رقم 26.16 يتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم ومجالات الحياة العامة ذات الأولوية، والذي سكت عن تحديد أبجدية كتابة الأمازيغية! وإذا كان الخلاف القديم كان حول الاختيار بين ثلاثة أبجديات، تيفيناغ والعربية واللاتينية، فإنه بعد الحسم، على إثر سلسلة من الاستشارات، لصالح أبجدية تيفيناغ، بالقرار الملكي في فبراير 2003، والذي أنهى ما سمي إعلاميا ب “معركة الحرف” ، فإن نفس “المعركة” تعود اليوم تحت قبة البرلمان بعيدا عن الرأي العام، لكن من زاوية جديدة ترتكز على محاولة “تحويل” الاختصاص في التنصيص في أبجدية كتابة الأمازيغية من مشروع القانون رقم 26.16 لجعلها من اختصاصات المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، الذي ما يزال بدوره في غيب المخاض التشريعي! ومحاولة تحويل الاختصاص المشار إليها يحيط بها الغموض والغرابة من كل جهة، ولا يتسع لها النص الدستوري ولا يقبلها المنطق السياسي، ولا تستند إلى مبررات مقبولة. فكيف ذلك؟ أولا، الدستور يتحدث عن لغة كاملة وقائمة: رغم ما يمكن تسجيله من ملاحظات حول اللغة الأمازيغية التي يتم تداولها اليوم، سواء في المدارس أو في مختلف المنتديات الرسمية وغير الرسمية، فهي لغة كاملة من حيث تملكها لقاموس وقواعد وأبجدية للكتابة، ومن حيث الكسب الميداني الذي اكتسبته سواء في التدريس أو التعبير على مختلف الأصعدة، أو على مستوى الاعتراف الرسمي الذي تمتعت به في ظل الدستور السابق، الشيء الذي جعل منها لغة معترف بها شكلا ومضمونا. لذلك فالدستور الحالي تقدم بها خطوة أخرى بالاعتراف بها لغة رسمية، وتحدث عنها بصيغة تعني أنها لغة كاملة موجودة تتطلب فقط اتخاد تدابير وإجراءات لتفعيل طابعها الرسمي. فمن جهة أولى، فالدستور تحدث عنها بصيغة المفرد المعرف، ما يعني أنه يتحدث عن لغة حقيقية محددة وقائمة، وليس عن مجموعة عناصر أو لغة ينبغي إخراجها شكلا ومضمونا. ومن جهة ثانية، فقد ميز الدستور بين مصطلحي اللغة واللهجة، وخص الأول بالعربية والأمازيغية وخص الثاني بجميع التعبيرات الثقافية الأخرى المتنوعة بما فيها الحسانية واللهجات الأمازيغية المختلفة. وما سبق يعني أن القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية ليس له دور إحداث الأمازيغية أو تفويت إحداثها لغيره، بل دور ملخص في وظيفتي “تحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي” ووظيفة ” الإدماج في التعليم والحياة العامة”، والنص الدستوري واضح في هذا إذ يقول في الفصل الخامس منه: (يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية). وبالطبع فحرف تيفيناغ غير محمي قانونيا، إذ بقي الجانب الرسمي فيه مرتبط بنص بلاغ الديوان الملكي المشار إليه، وبالممارسات الفعلية في السياسات العمومية للحكومات المتعاقبة مند 2003، وخاصة في التعليم، وكذا في تقارير المغرب المتعلقة بحقوق الانسان حيث يدرج تيفيناغ في المنجزات الحقوقية للأمازيغ بالمغرب، … مما يعني أن الحاجة إلى التنصيص عليه في القانون المتعلق بالأمازيغية أمر طبيعي يتعلق باستكمال البعد القانوني لشخصيته القائمة وليس بإحداث تلك الشخصية. ثانيا اختصاصات القانون التنظيمي رقم 26.16 الخاص بالأمازيغية: ويتبين من النص الدستوري أن القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية له اختصاصين، الأول يتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، والثاني تحديد كيفيات إدماجها في التعليم وفي مناحي الحياة العامة. فبالنسبة لاختصاص تحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، ينبغي التذكير بأن “الطابع الرسمي” للغة هو جميع الوضعيات التي ترتفع فيها وبها تلك اللغة إلى مستوى اللغة الرسمية، أي لسان الدولة (لغة الإدارة، والوثيقة الرسمية، والخطب الرسمية، وواجهات مؤسسات الدولة، ولغة التقاضي، ولغة النقاش البرلماني، واللغة التي تحملها العملة الرسمية، …) ، وهذا يبين أن أبجدية كتابة الأمازيغية بعد حيوي في تفعيل طابعها الرسمي، ولا يمكن القيام بهذا التفعيل بدونه. وبالنسبة لمراحل تفعيل ذلك الطابع الرسمي، لابد أيضا من التوقف عند كلمة تفعيل التي تعني جميع الاجراءات التي من شأن اعتمادها تمكين اللغة من طابعها الرسمي، والذي نجد من بينها أيضا أبجدية كتابتها، والتفعيل هنا يقتضي فقط التنصيص القانوني على أبجدية تيفيناغ وليس البحث في إيجاد أبجدية بديلة. مما يعني أن القانون التنظيمي للأمازيغية هو صاحب الاختصاص في تحديد تلك الأبجدية لا غيره. وبالنسبة لاختصاص تحديد كيفيات إدماج الأمازيغية في التعليم وفي الحياة العامة، نجد هذا الاختصاص فيما يتعلق باللغة يمر عبر تداول تلك اللغة في التعليم وفي باقي مناحي الحياة، تداولها كتابة وشفاهة. مما يعني أن مهمة إدماج اللغة يقتضي تحديد حرف كتابتها، إذ لا يمكن الحديث عن إدماج الأمازيغية في التعليم مثلا بدون تحديد حرف كتابتها، مما يعني أن القانون رقم 26.16 هو صاحب الاختصاص في التنصيص على أبجدية كتابة الأمازيغية، وليس غيره من القوانين. مستوى اختصاصات المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية: الوجه الآخر لبيان تهافت محاولة “تفويت” مهمة تحديد أبجدية كتابة الأمازيغية للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، هو التوقف عند الاختصاص الدستوري لهذا المجلس، فالفصل الخامس من الدستور ينص على ما يلي: (يُحدَث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا. ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات. ويحدد قانون تنظيمي صلاحياته وتركيبَته وكيفيات سيره). وكما هو ملاحظ فالنص الدستوري يؤكد بصريح العبارة على حصر مهمة المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية في تنمية وحماية اللغتين الرسميتين ومختلف التعابير الثقافية، وهو ما يعني أن نقل اختصاص تحديد أبجدية كتابة الأمازيغية للمجلس لا تتسع له وظيفته الدستورية، وأن هذا الاقحام تعد على اختصاصات القانون 26.16 بتعسف واضح، وأن “تنمية اللغات” لا تتسع لمهمة تحديد حرف كتابتها لأنه أصلا لا يمكن الحديث عن لغة رسمية دون أن يكون لها رسم قائم تكتب به فكيف حين تكون لها صفة اللغة الرسمية التي أضفاها الدستور على الأمازيغية. مع العلم أن الدستور ساوى بين اللغتين العربية والأمازيغية في هذا الأمر. إنه إذا كانت الإحالة على المجلس الوطني أملتها اختصاصات تتعلق بالجوانب الأكاديمية والعلمية، فإن مشروع القانون التنظيمي المتعلق بهذا المجلس يجعل ضمن مكوناته المؤسساتية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي يعطيه الظهير المحدث له الاختصاص الأكاديمي والعلمي في موضوع الأمازيغية، وهذا المعهد قام بمهمته فيما يخص تحديد أبجدية كتابة الأمازيغية مند 15 سنة، وعملت الحكومات طيلة تلك المدة بمخرجات عمله في التعليم وفي الواجهات الرسمية لها ولقطاعاتها سواء في بناياتها أو في مواقعها الالكترونية الرسمية أو في وثائقها. فهل سيطلب من المعهد إعادة النظر في موضوع أبجدية كتابة الأمازيغية من جديد؟ إن ذلك سيكون محظ العبث. وإذا كان لابد من الأخذ بالاعتبار الأكاديمي والعلمي للمجلس الوطني، فلا ينبغي لمشروع القانون التنظيمي أيضا تعريف اللغة بالشكل الملتبس الذي قام به، ولا الحديث عن ضرورة إدماج اللهجات المحلية في التعليم ومناهجه من عدمه، فذلك سيكون شأنا أكاديميا وعلميا ينبغي تركه أيضا لذلك المجلس، وهكذا سنجد العديد من القضايا يحكمها أيضا ذلك الاعتبار. فلماذا أبجدية كتابة الأمازيغية وحدها؟ إن ما سبق لا يستغرب في ظل وجود رغبة غريبة في تفويت أهم اختصاصات القانون التنظيمي حول الأمازيغية للمجلس الوطني، ونجد هذا جليا في الفقرة الأولى من المادة الثانية في مشروع القانون التنظيمي 26.16، فهذه الفقرة التي تتحدث عن مهمة الدولة تجاه الأمازيغية وتبين أن ذلك يتم ب” تحديد التوجهات العامة لسياسة الدولة في مجال تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، وحمايتها وتنميتها وإدماجها، بكيفية تدريجية، في مختلف مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، باقتراح من المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية المحدث بموجب الفصل 5 من الدستور”، وهذه الفقرة تعري أمرا فضيعا وهو أن مشروع القانون التنظيمي حول الأمازيغية يتم إفراغه من مضمونه الدستوري، ورهن مهامه الدستورية بهيئة أخرى في علم الغيب بشكل متعسف وغريب. فمهمة الحماية والتنمية تدخل في صميم مهام المجلس الوطني، لكن تحديد السياسات المتعلقة بمهمتي تفعيل الطابع الرسمي والإدماج باقتراح منه إفراغ كامل لنص القانون من اختصاصاه الدستوري! الحديث عن لغة فشل في تعريفها وبالعودة إلى التعريف باللغة الأمازيغية، نجد مشروع القانون 26.16 قد فشل في تعريف اللغة التي ينبغي تفعيل طابعها الرسمي وإدماجها وقدمها وكأنها غير موجودة، وعرفها بمجموعة من المكونات منها اللهجات التي ينبغي أن تظل روافد لها، كما سنبين ذلك لاحقا. أي أنه لا يميز بين لغة مُمَعْيرة ومكتوبة مند 15 سنة ويتم التدريس بها، دور القانون التنظيمي هو تحديد مراحل تفعيل رسميتها وإدماجها في الحياة العامة، وبين لهجات ينبغي حمايتها من خلال سياسات المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، كما نص على ذلك الدستور. لقد عرف مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 في مادته الثانية اللغة الأمازيغية كالتالي: (يقصد باللغة الأمازيغية في مدلول هذا القانون، مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب، وكذا المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة). ورغم أن الفصل الخامس من الدستور حدد مهمة مشروع القانون المذكور في “تحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، ومجالات الحياة العامة” وليس إحداثها، فالتعريف الوارد في مشروع القانون التنظيمي لم ينجح في تحديد تلك اللغة بل تحدث عن أمازيغيات متعددة، بذل تعريف اللغة التي ينبغي تحديد مراحل ترسيمها وكيفيات إدماجها في الحياة العامة. فما هي تلك اللغة التي ينبغي تفعيل رسميتها وإدماجها؟ هناك ثلاثة أجوبة محتملة. الأول، إذا كان المشروع يقصد باللغة الأمازيغية (المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة)، فهي فعلا قائمة وقد عمرت لأزيد من عقد من الزمن، ولها أبجدية لكتابة تلك اللغة هي حرف تيفيناغ. وبالتالي فالمنطقي أن ينص القانون على تيفيناغ كأبجدية لكتابة الأمازيغية. الثاني، إذا كان يقصد باللغة الأمازيغية فقط (مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب) فهذا يعني أننا أمام مكونات لهجوية متعددة للغة غير موجودة، مما يعني العمل أولا على إخراج هذه اللغة التي سوف يعمل القانون على تفعيل طابعها الرسمي وتحديد مراحل إدماجها في الحياة العامة. وبالطبع هذا مناقض لنص الدستور الذي يعترف بتلك اللغة، ومناقض للواقع الذي يشهد على وجود لغة أمازيغية تمت معيرتها وتم إدماجها بأبجدية تيفيناغ في التعليم وفي الكثير من مجالات الحياة العامة، وفي أدبيات مختلف الفاعلين، ومن العبث هذر كل الجهود المبذولة طيلة 15 سنة بدون مبرر معقول. الثالث، إذا كان المشروع يقصد الخلط بين الأمرين، فسيكون ذلك منطقيا إذا كان الغرض احترام ما تم إنتاجه مؤسساتيا، وتطويره وتنميته بإدماج مختلف التعبيرات الأمازيغية، وهذا لا إشكال فيه ولا يطرح أية مشكلة بالنسبة لإقرار أبجدية تيفيناغ، ولا مبرر لنقل اختصاص التنصيص على هذه الأبجدية إلى المجلس الوطني. لكن سكوت مشروع القانون عن أبجدية كتابة الأمازيغية، ومحاولة تفويت الحسم فيها إلى المجلس الوطني أمر مرفوض، لا من حيث غياب أي مبرر معقول لذلك، ولا على مستوى العبث الناتج عن هذر الجهود بدون مبرر معقول أيضا. إن الذي ينقص اللغة الأمازيغية ليس إيجادها بل تفعيل الطابع الرسمي لها وتمنيتها، وجعلها تستوعب تعدد التعبيرات المحلية بشكل أفضل. والدستور لا يتحدث عن لغة ينبغي اولا استحداثها، بل يتحدث عن لغة قائمة قرر أن يجعلها أيضا لغة رسمية للدولة. لقد تحدثنا عن أبجدية كتابة الأمازيغية وبينا تهافت محاولة تفويت الاختصاص القانوني حولها من القانون التنظيمي حول الأمازيغية إلى المجلس الوطني، والواقع أن الأمر يتعلق بمحاولة إفراغ مشروع القانون ذلك من أهم الصلاحيات التي أعطاها له الدستور، لصالح مجلس في علم الغيب. وهذا لا يخدم الأمازيغية في شيء.