من جديد تستأثر مدينة حماة السورية بالنصيب الوافر من القمع الهمجي لنظام آل الأسد…. لم يكن ذلك مفاجئا حيث كنا ننتظر منذ إطلاق الشرارة الأولى لثورة بلاد الشام أن ترتكب حماقات ” تثارية ” في هذه المدينة، انتقاما من تاريخ أبنائها الذين سجلوا صفحات ناصعة وجولات بطولية في مقاومة ظلم واستبداد هذا النظام القمعي المستبد. تاريخ تعود بنا أبرز محطاته إلى فبراير- 1982- حيث وقع النظام السوري على فصول اكبر وأبشع مجازر التاريخ الحديث ( حسب تقرير لمنظمة العفو الدولية )، وهي مجزرة حماة الأولى، والتي مع الأسف لم يسمع بها إلا القليل من الناس لتبقى سجلاتها طي الكتمان وقد تمت بتواطؤ مكشوف وتحت صمت مريب لمختلف الأنظمة بما فيها الأنظمة العربية والنظام الإيراني الذي لم تمض على ثورته حينذاك إلا ثلاث سنوات، وهي ثورة قامت- ضمن ما قامت عليه- على قضايا الأمة وقضايا الشعوب المستضعفة. كل التقارير المنجزة عن مجزرة حماة *1982* كانت مروعة وحددت عدد ضحاياها فيما لا يقل عن 40 ألف شخص،وقد علق ديبلوماسي غربي عنها بقوله : “يمكن القول إن ما جرى في الأسبوع الماضي في حماة هو “فرصوفيا أخرى” أي مثلما حدث لفرصوفيا أثناء الحرب العالمية الثانية… إنه فعلاً، موت مدينة”. الحصار الإعلامي حينذاك كان شديدا، والوسائل المستعملة في نقل الأخبار لا تقارن بوسائل اليوم، فلا إنترنيت، ولا فضائيات، ولا هواتف محمولة…، مما أراح وسهل من مأمورية النظام السوري وهو يرتكب المجزرة حتى فعل في حاضرة حماة ما لا يتصوره عقل… ولم يزعجه في ذلك إلا بعض التقارير القليلة التي أنجزها إعلاميون غربيون ومنهم الصحفي الفرنسي شارل بوبت، المحرر في صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية الذي استطاع أن يدخل إلى قلب مدينة حماة أثناء الأحداث. وهو الوحيد من بين كل الصحفيين العرب والأجانب الذي تمكن من الدخول إلى هذه المدينة…وكان ذلك بحيلة ذكية. …وكان مما نقله عن المجزرة : * …ننتقل من بيت إلى بيت. ومن فوقنا تمر طائرة هيلوكبتر. وأمامنا عائلات بأكملها تبكي، جثث تجر من أرجلها أو محمولة على الأكتاف، أجساد تتفسخ وتنبعث منها رائحة قاتلة ، وأطفال تسيل منهم الدماء وهم يركضون لاجتياز الشارع…* – عن موقع الشرق العربي.المملكة المتحدة – وإضافة إلى ذلك ما تناقلته بعض المنابر الإعلامية المتداولة حينذاك ومنها مجلة المجتمع الكويتية وبعض الشواهد المكتوبة التي سربها أصحابها قبل أن يقضوا في المذبحة ومنها لائحة الشهداء التي وقعها أحد أطباء حماة وقدمها للصحفي الفرنسي السالف ذكره… ثم أيضا بعض التقارير الصادرة لاحقا عن منظمات حقوقية عالمية ومنها تقرير منظمة حقوق الإنسان والتضامن مع الشعوب المضطهدة الخاص بسوريا والمنجز سنة 2010 - أما في المغرب فلم تصلنا أخبار حماة إلا بعد مدة، ولم نكن لنسمع عنها لو لم نكن ننشط في الساحة الجامعية حيث راجت بين الطلبة أشرطة المنشد السوري “محمد أبو راتب” – مما كان يعرف بسلسلة شاميات – وهي أشرطة وثقت بالنشيد الملتزم لمذبحة الشام الأولى، وحملت مرارة المأساة على لسان شخص عايشها ، أشرطة لا تزال تتداول إلى حد اليوم ولكن القليل من يفهم عما يتحدث أبو راتب حينما يقول: دمشق في القلب قلبي في هوى حلب دمي حماة ونوح الجسر أغنيتي سورية اليوم بركان سيول دم شام الرسول منار نار ملحمتي أو حينما يصف هول الألم بقوله: ياشام… ذاب الفؤاد الطفل من ألم ياشام.. ياشام.. يكفيني من العنت إضافة إلى ذلك حملت أشرطة بعض الدعاة في ذلك الوقت ومنهم الشيخ أحمد القطان وعبد الحميد كشك أخبار تلك المجازر ولكن تداولها مع الأسف كان فقط يقتصر على أوساط شباب الصحوة الإسلامية. هكذا فحينما تيقن نظام سوريا ألا أحد سيعارضه فيما يفعل أمعن في أفعاله التثارية الهمجية، وقد نقل عن رأس هذا النظام أنه أمر بهدم حماة ثم بوضع يافطة يكتب عليها: هنا كانت مدينة تسمى “حماة”… وفعلا تم استكمال فصول الجريمة مع إخفاء معالمها وتم هدم ما يتجاوز الثلث من مباني المدينة على رؤوس قاطنيها وفق ما خطط له النظام الذي بذلك وجه رسالة إلى كل شعب وأحرار سوريا وكل مدنها وأريافها، مفادها أن هذا مصير كل من سيفكر يوما في إزعاج وزعزعة ثوابت الفساد والاستبداد المؤسسة لأركان الدولة الأسدية.. لم يبق لمنشدنا حينها إلا الدعوة للملمة الجراح والاستعداد من جديد لموعد النضال… لملم جراحك يا أخي واحمل سلاحك لاتبال ِ ما عاد يجدينا الأسى ما عاد يكفيني سؤالي فنزيف صبرا قد سرى وحماة نادت بانفعال وجراح تدمر لم تزل كدموع شهبا في اشتعال قد حنّت الهيجا إليك وأشفقت شم الجبال فإلى النضال .. إلى النضال .. إلى النضال فاليأس ليس من شيم أهل الشام فان حلت بهم الهزيمة في جولة فصوت النضال لن يخبو لديهم: لا ياأخيّ .. فلا تقل ها قد خبا صوت النضال فصراعنا كرٌ وفرٌ والوغى دوماً سجال وطريقنا شوك الشعاب حصادنا أعلى الجبال أرادها هذا النظام البعثي رسالة أخيرة لجميع السوريين، الذين لم يستوعبوا رسالة سابقة أرسلها حين فتك بالشيخ المعارض “مروان حديد” بعد صراع مرير امتد من سنة 1964 إلى 1976 . ولكن مع الأسف رسائل الدم الموقعة من طرف النظام السوري لم تنته بعد مادام أن الجميع قد اختار مسلك الصمت حيال جرائمه المتجددة ولم يرغب احد بعد في إزعاجه. خلال المجزرة الأولى – مذبحة حماة (1982)- كانت المعارضة تقتصر على تنظيم “الإخوان المسلمون” الذي قام ضد النظام منفردا مما سهل على الأخير وأد ثورته والبطش بكامل بنيته التنظيمية بطشا هلل له الكثيرون وسكت عنه الآخرون، نظرا للتحامل الكبير لمختلف الدول والأنظمة المسجل منذ ذلك الوقت ضد التنظيم العالمي لإخوان الشهيد حسن البنا”. الاعتراف بذلك لم يأت إلا بعد ثلاثين سنة حيث في ذات جمعة من جمعات الثورة السورية رفع المحتجون شعار, عذرا حماة…سامحينا…إحياء للذكرى الثلاثين لمجزرة 1982… إن دم الآلاف في حماة لن يذهب سدى فقد تحول إلى رماد أحمر اندس تحت الأتربة الخصبة لواحدة من أقدم حواضر العالم، حتى هبت رياح التغيير وأدارت نواعير الشام فنفخت فيه الروح ليشتعل من جديد. ولكن اشتعال الثورة السورية هذه المرة كان أشمل وأعمق ولم يعد يقتصر على طيف واحد من الشعب بل اشترك الجميع في ذلك وخرجوا في صف واحد مطالبين بالحرية والكرامة لا شيء غير ذلك. إن فجر سوريا يلوح في الأفق..ودماء الشهداء تشق العتمة الدامسة ومن لن يبقوا للظلم بقية قد وصلوا.. فقد انتظرتهم سوريا مع منشدها محمد ابو راتب لثلاثة عقود …ولم يخب ظنها فيهم.. يا أهل الشام وجند الشام …..لوثبة حق قدسية يا نخوة معتصم ثارت …… يا جذوة عز وحمية آتون زحوفا مؤمنة ……. لا تبقي للظلم بقية سينصر الله تعالى أهل الشام لامحالة…رغم خذلان المتخاذلين.. مصداقا لقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ .