ماجدة أيت لكتاوي / القدس العربي: شمَّرت عن كُمَّيها، قبل أن تقلب في قفة المشتريات عن اللحم الذي وضعته في القدر مع بعض البصل وأخذت في تحريكه على مهل قبل أن تضيف إليه لاحقا بعض الجزر واللفت والملفوف، إنه يوم الجمعة ولابد أن يجتمع أفراد عائلة الحاجة مليكة على "قصعة" كسكس كما جرت العادة كل أسبوع. و"القصعة" آنية طينية أو خزفية، لا يكاد يخلو منها أي مطبخ مغربي، تخصص لتقديم وجبة الكسكس، فضلا عن القدر و"الكسكاس" ومنها اشتقت كلمة "كسكس" وهي الآنية التي يوضع فيها "الكسكس" المفتول بحبات القمح أو الذرة وقد يكون مُنسَّما بالأعشاب ليُطهى على البخار. ويصف الحسن بن محمد الوزان الفاسي، المعروف بليون الأفريقي في كتابه "وصف أفريقيا" المدون عام 1520م، طريقة طهي "الكسكس" عند أهل فاس، "في الشتاء يأكلون طعاما يسمى كسكسو يصنعونه من دقيق مبلل يحول إلى حبيبات في حجم حبات الكزبرة تنضج في قدر ذات ثقوب (كسكاس) تسمح بطلوع بخار من قِدر أخرى ثم يخلط هذا الدقيق المتبخر بعد نضجه بالسمن ويُسقى بالمرق". "الكسكس" جمَعَ ما تفرق قارب خطيب الجمعة على إنهاء خطبته والشروع في صلاة الجمعة، ما يجعل الحاجة مليكة تسارع الزمان للانتهاء من طهي حبات "الكسكس" وإضافة القليل من "السمن الحار" وهو سمن يتم تخزينه حتى تتغير رائحته، يمنح نكهة أكثر قوة وأطيب مذاقا، فيما تعمد إلى المرق بالقدر تضيف بعض الملح إليه وتضع حزمة ملفوفة من أعشاب الكزبرة والبقدونس. تناهت أصوات الباعة المتراصين أمام بوابة مسجد "ابراهيم الخليل" في مدينة سلا المجاورة للعاصمة الرباط. لابد أنّ المصلين بدأوا بالمغادرة تجاه منازلهم، ومنهم زوجها واثنان من أبنائها. ترصّ "الحاجة" حبات "الكسكس" في قعر "القصعة" محاولة تفادي البخار الساخن المنبعث منه، قبل أن تسكب عليه مرقا لذيذا وترتب الخضر بالتساوي على الجنبات وتجعل لقطع لحم الضأن مكانا في الوسط. في المغرب، يقدم طبق "الكسكس" الأصيل إلى جانب كؤوس من اللبن، وإلى جانب كونها وجبة غذاء قارة يوم الجمعة، يبرز هذا الطبق بشدة في مختلف المناسبات بالمآتم والأفراح وعند استقبال الضيوف وحين التجمعات العائلية. طبق "الكسكس" لم يوحِّد أفراد العائلة على مائدة الطعام فقط، بل نجح في توحيد الدول المغاربية كذلك، بتصنيفه ضمن قائمة التراث غير المادي من طرف منظمة "اليونيسكو"، ويأتي هذا القرار التاريخي بعد إيداع الملف من قبل المملكة المغربية والجزائر وتونس وموريتانيا، لدى قطاع الثقافة ب "اليونسكو"، المكلف بالاتفاقيات والإعلانات العالمية. وسبق لدول المغرب الكبير، أن قدمت يوم الجمعة 29 آذار/مارس 2019، ملفا مشتركا بعنوان "المهارة والخبرة والممارسات المتعلقة بإنتاج واستهلاك الكسكس" قصد إدراج هذه الأكلة المغاربية في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" وهو ما تمكنت منه بالفعل. وجبة عتيقة وأصيلة تؤكد الروايات تواجد طبق "الكسكس" بشمال أفريقيا منذ القرن الثالث قبل الميلاد، ووصف شارل أندري جوليان في كتابه "تاريخ أفريقيا الشمالية"، ساكنة شمال أفريقيا ب "قوة بنيتهم وطول أعمارهم وإنهم يأكلون "الكسكس" منذ ذلك العهد" (يقصد الروماني). المؤرخ المغربي (لحسن اليوسي – القرن السادس عشر الميلادي) يصف الأمازيغ ويميزهم عن غيرهم من سكان أفريقيا في كتابه "المحاضرات" بأنهم يتميزون ب "حلق الرؤوس وأكل الكسكوس ولبس البرنوس". وجاء في كتاب "ديوان المائدة" أنه "ليس للكسكس ملامح المدينة، فهو سابق على المدن. وليس له قسمات السهل، بدليل تضاريسه الوعرة إنه سليل الجبال، من أخمص القصعة حتى لحم الأعالي، وقد تغيرت صفاته وتعددت وصفاته بحسب الأرض التي يضرب فيها وما تنتج من خيرات". تنوع وغنى على الرغم من أن "الكسكس" بالخضر والمعروف ب "كسكسو بسبع خضار" يبقى من أكثر الأطباق حضورا وشعبية على موائد الأسر المغربية، والذي يتم تحضيره بشكل أسبوعي بأنواع من الخضر منها الجزر واليقطين والقرع الأخضر واللفت الأبيض والأصفر والملفوف والبصل ويضاف إليه حبات من الحمص أو الفول الطازج، يطبخ المغاربة أنواعا أخرى من الكسكس حسب المدن والمناطق. ويحرص المغاربة كذلك عقب عيد الأضحى وخلال عاشوراء على إعداد "الكسكس" بالقديد، وهو لحم مجفف ومملح، فضلا عن "الكسكس" بالتفاية، التي تعد بالبصل المعسل والزبيب ويتم تزيينه باللوز المقلي والبيض، ناهيك عن كسكس "بادَاز" المعد من الذرة، ويعد أهالي الأطلس "الكسكس" الخاص بهم من الشعير أو القمح وقد يسقونه بالحليب، فيما يحبذ أهل الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية إعداد "الكسكس" الثلاثي أو الخماسي، وهو المكون من 3 أو 5 أنواع من الحبوب يضيفون إليها الأعشاب كالزعتر. بالعودة إلى بيت الحاجة مليكة وقصعة "الكسكس" التي أعدتها لأسرتها، فحتى بعد تناول الوجبة الغذاء الشهية، وانفضاض المجلس، بقي عبَق "الكسكس" بالخضر يجوب البيت عالقا في جدرانه، انضاف إليه أريج النعناع المستخدم في إعداد شاي العصر، مؤكدا بذلك خصوصية وأصالة المطبخ المغربي وتقاليد بيوته العريقة.