قبيلة أنجرة تودّع عالمها الكبير الفقيه المدرّس النّفّاعة سيدي محمد الأنجري رحمه الله بقلم الدكتور: يونس السباح [email protected] غادرنا إلى دار البقاء، الفقيه المدرّس النّفّاعة، المُسنّ البركة، الشيخ أبو سعيد سيدي محمد الأنجري، أحد أركان العلم بقبيلة أنجرة، الذي اختاره الله إلى جواره صباح يوم الجمعة، 9 شعبان عام 1441ه/ 3 أبريل عام 2020م. رحمه الله. وقد ارتأينا أن نتحف بشيء من سيرته، وفاء لما بذله في التربية والتعليم من جهد، واعترافاً بفضله على كثير من أهل العلم ممن يتربّعون على كراسي التدريس في مخلتف المعاهد والجامعات. ولكون موت العلماء ثلمة كبرى، ومصيبة عظمى، فانقباط العلم لا يكون بانتزاعه من الصدور، وإنما يُقبض بقبض العلماء كما ورد في صحيح السنة. اسمه ونسبه وولادته: هو الفقيه المدرّس، المدرّر، العلامة النحوي، العابد الزاهد، سيدي محمد الأنجري المكنّى بأبي سعيد. والشّهير بالفقيه البيضاوي. ولد رحمه الله عام: 1356ه/1937م بمدشر (طَالَع الشّْريف) بربع البحراويين من قبيلة أنجرة العالمة، الذي يقع على بعد 20 كيلو تقريباً من مدينة طنجة، على الشريط الساحلي المؤدّي للقصر الصغير. وأصوله كلّها من هذا المدشر المذكور. دراسته الأولى: تربّى الفقيه سيدي محمد الأنجري في بيت علم وفضل، فوالده كان من الفقهاء المدرّرين، وكذلك معظم أفراد أسرته، وبهذا البيت القرآني ترعرع، ولمّا بلغ سنّ الإدراك، أًلحق بكتّاب القرية لعلم مبادئ الكتابة والقراءة وحفظ ما تيسّر من الكتاب المبين، وكان والده يتولى تعلمه بالبيت أيضاً، فيجمع له بين الحسنين، وبقي يدرس بهذا الكتّاب إلى أن حفظ القرآن كلّه عن ظهر قلب، وذلك ما بين (1943-1949م)، وعمدته في هذه المرحلة، والده، والفقيه سيدي محمد بن الحاج سلِيمان أجْحِير، الذي كان مدرّراً رسمياً بمسجد القرية. دراسته الثانية: ولمّا أكمل حفظ القرآن الكريم بمسقط رأسه "طالع الشّريف"، ذهب في رحلة علمية للقبائل المجاورة قصد تصحيح رسمه وضبطه على العادة المتّبعة عند الطّلبة، وذلك سنة 1950م، فقصد أوّلاً قبيلة بني جرفط، وبها أخذ عن الفقيه أحمد بن خدّوج، والفقيه الحزمري، وظلّ بها أربع سنوات يصحّح عليهما حفظ القرآن ورسمه، وفي هذه الفترة انتقل إلى مدشر(لَهْرَا) بالقبيلة نفسها ليدرس مبادئ العلوم على شيوخها المعروفين، وأعلامها المتمكّنين، ليعود إلى مدشره مرّدة أخرى، ويأخذ على والده الأجرومية وبعض المتون المؤسِّسة. ثمّ انتقل ثانية إلى قبيلة أهل سريف، وتحديداً بمدشر (عين منصور)، لأخذ العلوم الشرعية المختلفة، وظلّ بها سنوات، أخذ بها على مجموعة من العلماء، أبرزهم: الفقيه عبدالعزيز الصمدي، والفقيه بورُفَّة، والفقيه الغيلاني وغيرهم. لينتقل مرّة أخرى إلى قبيلة بني جرفط وينزل بمدشر الصَّخْرَة. وقد ظل بها مدّة وجيزة أتمّ بها أخذ العلوم المختلفة على عدّة شيوخ. وبعد هذه المرحلة قصد مدينة طنجة، وهي يومئذ تعجّ بالعلماء والمدرّسين، ومهوى طلاّب العلم من كلّ جهة، فأخذ بها على الفقيه القاضي سيدي مُحمد بن عبد السلام ابن عجيبة، ولازمه مدّة خمس سنوات، درَس عليه فيها علم الأصول، والنحو، والبلاغة، والفقه بالمتون المعروفة المتداولة. كما لازم الفقيه المعمّر، العلامة الشريف سيدي محمد البقالي الدّاهري، ثمّ بدأ يختلف إلى مجالس السّادة العلماء الغماريين أنجال سيدي محمد بن الصدّيق، وهم الفقهاء: سيدي عبد الله، وسيدي عبد الحي، وسيدي عبد العزيز، وسيدي الحسن. أخذ عليهم مختلف العلوم، ولا سيما علوم الحديث التي اشتهروا بها فقهاً ومصطلحاً. بداية تدريسه: بعد أن ملأ الفقيه العلاّمة سيدي محمد الأنجري وطابه من العلوم، وحصل له الرسوخ في مختلف العلوم بشهادة شيوخه، رجع إلى قريته طالع الشريف، وبمسجدها العتيق بدأ يعلّم الطّلبة، فكان يجمع بين الحسنين، يدرّس الطلبة القرآن، ويعلم العلوم الشرعية، وقد تخرّج على يده عشرات من حفظة القرآن، وهي مزية قلّما توجد عند مدرّس، والجمع بين تعليم القرآن وتدريس العلوم، يحتاج لصبر وجهد وجلَد، وناهيك بهذه المكانة الشريفة شرفاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه)، وممّا يحكى عنه في هذا الصّدد، أنّه كان رحيماً بالطّلبة، يطلب منهم أن يتأخروا في منازلهم حتّى تطلع الشمس، بخلاف العادة التي كانت تفرض على الطالب أن يأتي قبل الفجر ليبدأ الحفظ، وهي طريقة في نظر الشيخ عقيمة فيها حرمان الأطفال من النوم، وقد تنفّرهم من الإقبال على الحفظ، لذلك كان يراعي شعورهم، فلا يحملهم ما لا يطاق. وفي حدود سنة 1970م، بدأ يقبل عليه الطلبة من كلّ حدب وصوب ينهلون من معارفه، ويأخذون عنه العلوم المختلفة، لما تميّز به من التحقيق في التّدريس، إلى ربّانية امتاز بها، وقد درّس المتون اللغوية والفقيه والحديثية، بالكتب المعروفة المتداولة، لا داعي للإطالة بذكرها. وقد تخرّج عليه منذ بداية اشتغاله بالتدريس إلى أن توفّاه الله، الآلاف من الطلبة، معظمهم أئمة المساجد، وأساتذة بالجامعات، ومدرّسون على سَنَنِه، وأعظهم مراكز علمية متميّزة. مؤلفاته: من المعروف عن الفقيه سيدي محمد الأنجري رحمه الله، أنّه مدرّس من الطّبقة العالية، وقد تفرّغ لهذا الغرض مدّة حياته، ولذلك قلّت مشاركته في التّأليف، والذي وصلنا من عُصارة فكره، ورَشح مداده: * التّطلّع الشريف، بشرح البسط والتّعريف. وهو شرح على نظم العلامة المكودي في علم التصريف. * إسعاد نظر الأريب، فيما يتعلّق بالإضافة إلى اسم الحبيب. * فوائد جليلة، في مسائل نحوية عويصة. * الإسعاف، فيما يتعلّق بالعلَم المضاف. * حواش على مفتاح الوصول للشريف التلمساني وغيرها من الرسائل والطّرر التي همّش بها كتب الفقه والنحو والأصول وغيرها من الكتب التي كان يدرّس بها، والتي جمعت بين دقة الفهم، وفكّ أعوص العبارات… وما أحراها بالجمع والعناية والإخراج. وفاته وما رُثي به من الشعر: توفي الفقيه سيدي محمد الأنجري رحمه الله، بعد عمر عامر بتعليم الطلبة، وتدريس العلوم المختلفة، التي فرّغ لها عمره، وأفنى فيها حياته، إلى إقبال على عبادة ربّه، وتقلّل من الدّنيا، مع عفّة النفس، وتواضع وتنازل للصغير والكبير، فاضت روحه إلى مولاه، صبيحة يوم الجمعة 9 شعبان عام 1441ه/3 أبريل 2020م، وشيعه عدد قليل من محبّيه بسبب هذا الوباء الذي حلّ بأهل الأرض قاطبة، منعت السلطات على إثره الاجتماع من أجل الدفن والصلاة، وصُلّي عليه بالمكان الذي دفن به، وهو ربوة خلف المسجد الذي قضى به حياته كلّها بمدشر طالع الشريف، وبكاه محبّوه وطلبتُه، وفقدته الساحة العلمية، وتأثر بفقده فآم من الناس، وتعدّ وفاة خسارة كبرى لقبيلة أنجرة العالمة، ومدينة طنجة بأكملها. فرحمه الله ورضي عنه وتقبله في الصالحين من عباده، وسقى جدثه بوابل مغفرته، وأمطر عليه شآبيب رحمته. وممّا رُثي به من الشعر، نظم الدكتور الفقيه السيّد محمد الروكي حفظه الله، الذي قال في رثائه: تعاظم رزئي في المُصابين واشتدّا==وجاوز حزني من تفاقمه الحدّا وهيّج آلامي النعي مجلجلاً==ألا إنّ ركن الأنجري قد انهدّا ومنها: توارى ولكن ما توارتْ علومُه==وأخلاقه في النّاس تستنبت الوردا فإن تك أيدي النّاس وارته في الثّرى==فطلاّبه يحيون من علمه عهدا فرُحماه من ركنٍ هوت لبناته==ولكنّه أرسى خلائفه جندا