عندما نشرت جريدة "النهار المغربية" مقالات مدعمة بالأدلة من كتب التراث حول "الحَرق بالنار" كعقاب، هناك مَن اندهش، وهناك من كذّب، وهناك من قال لو كان هذا صحيحا لأخبرنا به العلماء؛ ولكن ما دخل علماء الدين بحقائق التاريخ؟! متى سنفصل بين الدين كتعاليم إلاهية والتاريخ كأفعال بشرية ناقصة ومتغيِّرة دوما أبدا؟ متى سنُفرّق بين الرسل والأنبياء عليهم السلام، وبين أناس صاحبوهم وتحتمل أفعالهم من الصواب ما قد تحتمله من الخطإ؛ ثم لا مقدّس إلا الله عز وجل وأنبياؤه المعصومون عليهم السلام.. لكنّ قارئا اتصل بي هاتفيا قائلا: "وماذا عن الذبح بعد الإحراق بالنار؟".. فكان جوابي بسيطًا: "دعني أسأل التاريخ" وقد سألتُه ولم يبخل بالإجابة.. لكنّ الملاحظ هذه الأيام، هو أنه في كثير من القنوات، والصحف، والأندية، أصبحنا نسمع أناسا ينادون بتنقية التراث، ومنهم الشيوخ والفقهاء الذين كانوا يرمون بالكفر والزندقة كل من كان ينادي بذلك صراحة.. فما الذي تغير اليوم؛ وكيف تحول الحرام حلالا وصارت الزندقة الداعية إلى مراجعة التراث ضرورة ملحّة؟ الجواب: "سبحان مبدل الأحوال".. والآن دعني أجيب على سؤال ذلك القارئ، ولا أعلم إن كان متحدّيا أو ساخرا أو جادا؛ لكن لا يهم، مادام الأهم هو معرفة إن كان الذبح قد حصل يوما ما في تاريخنا أم لا.. الجواب: نعم؛ لقد حصل مع الأسف الشديد.. كيف ذلك؟ هي قصة أليمة كان ضحيتها "عبدالله بن خبّاب" وزوجته الحامل.. هو ابن الصحابي الجليل "خبّاب" ذلك السياف الذي كان يصنع السيوف للمسلمين.. كان أمّيا فصار عالما وتقيا، فسأله عمر رضي الله عنه عن سر كل هذا العلم الذي حصّله؛ فكان جوابه: "قلبٌ عقول ولسان سؤول يا أمير المؤمنين"؛ مما يبين أن الإسلام البسيط، والسّلس، والواضح لم ينزل في بدايته على أصحاب العمائم، والقلانس واللحي الطويلة.. مرّ عليّ كرّم الله وجهه، فوقعت عيناه على قبر، فسأل: "قبر من هذا؟" فأجابوه: "إنه قبر خباب".. فتملاّه خاشعا ثم قال: "رحم الله خبابًا.. لقد أسلم راغبًا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا..."؛ وهذه سيدي القارئ مأساة ابنه عبد الله، سأوردها مختصرة، إن شاء الله.. لقي الخوارج "عبد الله بن خباب" هو وزوجته في طريق سفرهما، فاعتقلوه وسألوه أن يحدّثهم ببعض ما سمعه من أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لهم: "سمعتُ أبي يقول": "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول": "ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي".. والآن اُنظر سيدي القارئ إلى هذه المفارقة العجيبة: فبينما هم ماضون به [تماما كما رأيتَ الدواعش يفعلون مع 21 قبطيا قبل ذبحهم]؛ سقطت تمرة من نخلة، فتلقاها أحد الخوارج بفمه، وقبل أن يمضغها، صاح به زميل له: "كيف تستحلها بغير إذن صاحب النخلة، وقبل أن تدفع ثمنها؟"؛ فألقاها من فمه وراح يستغفر الله؛ إنه الورع والتقوى كما نراه اليوم في الدواعش.. وبعد خطوات في سيرهم، تقدموا من "عبد الله بن خباب" فذبحوه ذبح الشاة؛ ثم التفتوا صوب زوجته الحامل، فصاحت من الفزع: "إني حُبلى؛ فاتقوا الله فيَّ"؛ لكنهم ذبحوها هي الأخرى، وبقروا بطنها وأخرجوا جنينها.. وردتْ هذه القصة في عدة مراجع تراثية، لكنْ ولكي أسهّل البحث على القارئ الكريم، فهي موجودة في كتاب رخيص ومتوفر ببلادنا، وهو "خلفاء الرسول" لخالد محمد خالد؛ طبعة دار الفكر؛ صفحة: 467.. هذه قصة نُلْقِمُ بها أفواه الجهلة، والمكذّبين، والمعاندين، والذين على عقولهم وأفئدتهم أقفال أصابها الصدأ؛ كما نقصها على الذين يحدّثون الناس بجهلهم، فيصدّقهم العوام الذين يتلذذون بالكذب، وتصدمهم الحقائق المرة، وهم لا يقرؤون حتى الجريدة، فما بالك بالكتب، والليالي الطوال في تمحيصها، إلى جانب ما يتطلبه ذلك من تكاليف مادية، ومجهودات نفسية وجسدية مضنية؛ ولكن كان ذلك يهون في سبيل معرفة الحقيقة؛ لأن الحقائق هي نوع من التحرر من العمى الفكري..