مرة أخرى تقدم مدينة فاس، الوفية لتاريخها كأرض للسلام والتسامح والحوار بين الثقافات، درسا جديدا في ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين ممثلي الديانات السماوية الثلاث، وذلك من خلال مبادرات إنسانية وعمليات تضامنية تستهدف الإنسان، بعيدا عن اعتبارات اللون والعرق والدين. فبعد بضعة أشهر من تدشين بيعة (صلاة الفاسيين) بفاس، وهو الحدث الذي اكتسى طابعا خاصا وحمل أكثر من دلالة ومغزى، عاشت فاس، الأسبوع الماضي، حدثا لا يقل أهمية تمثل في إشراف مجموعة من أفراد الطائفة اليهودية الذين يعيشون بمدينة فاس على توزيع العديد من الكراسي المتحركة على بعض ذوي الاحتياجات الخاصة من إخوانهم المسلمين. ولا شك أن هذه المبادرة الإنسانية تظل متميزة، وتحمل أكثر من دلالة في زمن طغى فيه التعصب والتحامل والتطرف ورفض الآخر، كما عرف ارتفاعا في منسوب الكراهية والميز العنصري والتصادم بين الثقافات والديانات. وربما يكون المغرب، من خلال مثل هذه المبادرات وغيرها، هو البلد الوحيد الذي يخلق الاستثناء حين يقدم نماذج رائدة للعيش المشترك الذي يجب أن يسود بين مختلف الديانات والثقافات بعيدا عن الكراهية والتعصب. كما أن الفضاء الذي احتضن هذه المبادرة التضامنية وهو "مركز بن ميمون"، المكان الذي يتجمع فيه أفراد الطائفة اليهودية بفاس، يحيل بدوره على رمز من رموز الداعمين لقيم التسامح والتعايش وتقبل الآخر وهو الفيلسوف بن ميمون أحد المفكرين اليهود الكبار الذي اضطر إلى مغادرة الأندلس التي طغى فيها التعصب والكراهية ونبذ الآخر واحتمى بالمغرب وعاش بين ظهرانيه. وجاء توزيع هذه الكراسي المتحركة على بعد أيام قليلة من حلول شهر رمضان، الذي هو شهر التوبة والمغفرة وشهر التعاون والتضامن مع المحتاجين والتكافل ومساعدة الفقير. وكما دأبوا على ذلك منذ عقود، برهن أفراد الطائفة اليهودية بفاس، من خلال هذه الالتفاتة التضامنية، عن انخراطهم في كل المبادرات التي تروم مساعدة المحتاجين والمرضى والتخفيف من معاناتهم خاصة أولئك الذين يعانون من الفقر والحاجة. وكان أفراد هذه الطائفة قاموا، خلال السنة الماضية، بتوزيع كمية مهمة من الآليات والمعدات الطبية وشبه الطبية على مصالح المستعجلات والمستوصفات والوحدات الطبية التابعة للهلال الأحمر المغربي. وقال السيد أرموند كيكي، رئيس الطائفة اليهودية بفاس وصفرو ووجدة، إن ما يقوم به أفراد هذه الطائفة ما هو إلا تكريس وتجسيد للتعاون والتضامن بين المسلمين واليهود بمدينة فاس التي هي أرض السلم والإخاء والتعايش بامتياز. واعتبر السيد كيكي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن التضامن مع الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة يندرج في إطار روح التسامح والتعايش التي ارتكزت عليها منذ قرون العلاقات بين اليهود والمسلمين الذين عاشوا جنبا إلى جنب على أرض المغرب. ولا غرابة أن تشكل مدينة فاس نموذجا حيا للعيش المشترك بين الديانات والثقافات لأن تاريخها كعاصمة روحية للمملكة يعكس ذلك التسامح الذي ميز ساكنتها من يهود ومسلمين منذ آلاف السنين. فقبل عدة أشهر تقاسم المجتمع الدولي مع المغرب لحظة الاحتفاء بحدث متميز يحمل أكثر من دلالة، وذلك حين حضر ممثلو الديانات التوحيدية الثلاث حفل تدشين بيعة (صلاة الفاسيين) بفاس، والذي أقيم تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس. وقد شكل هذا الحدث لحظة تاريخية كبيرة، حيث اجتمع في فضاء واحد رئيس الحكومة السيد عبد الإله ابن كيران، ورئيس البرلمان الألماني (البوندستاغ) السيد نوربرت لاميرت، بالإضافة إلى مستشار صاحب الجلالة السيد أندري أزولاي، والعديد من الشخصيات الأخرى التي تنتمي للديانات اليهودية والمسيحية والمسلمة من أجل تدشين هذه الكنيسة باعتبارها تمثل اختزالا للذاكرة وللهوية المتعددة للمغرب. وأكدت الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في حفل تدشين هذه الكنيسة أن الخصوصية العبرية "تشكل اليوم وكما كرس ذلك الدستور الجديد للمملكة أحد الروافد العريقة للهوية الوطنية". وبدوره اعتبر السيد أندري أزولاي تدشين هذه الكنيسة لحظة تختزل قوة وغنى تاريخ المغرب وتنوع مكوناته.