صار شهر رمضان الأبرك، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، مناسبة وفرصة للربح، والمتاجرة، وكل أنواع المضاربات.. صار شهر رمضان معْرضا للسلع، وفترة للتنافس في الاستهلاك، مع العلم أنه شهر التقشف، ومحاربة أهواء النفس، مع الإقلاع عن كل العادات السيئة، الظاهر منها والخفي، فلو شاء الكاتب أن يتوسع في فضائل ومكارم هذا الشهر الفضيل، لتطلّب منه ذلك مجلدا ضخما.. ولهذا، وبسبب قيود حجم الرقعة، فلن أزيد عن هذا فمعذرة ! لكنّ شهر رمضان، الذي أصبحنا عليه اليوم، يختلف تماما عن رمضان الحقيقي الذي أتى به الإسلام، كترويض للروح، وتخفيف عن النفس والجسم والجيب، حيث أُفرغ هذا الشهر من كل المضامين الروحية السامية، وتحوّل إلى مهرجان مدته ثلاثون يوما، كلها لهو، وبذخ، وتجارة، واستهلاك، حتى صارت الناس تستعد له تماما كما تستعد للبرد والشتاء، وتمارس الادخار كما لو كانت تستعد لحرب ضروس طويلة.. صار لشهر رمضان، رجال أعماله، وتجاره، وسياسيوه ومغنوه، وممثلوه، حتى طُبِع شهر الصيام بطابعهم، وصُبِغ بصبغتهم، وهكذا وبدلا من أن نرتفع إلى مكارم أخلاق، صار رمضان شهر "العشّاق، وفرصة المشتاق، ومناسبة لموائد (التغلاق)".. صار الفقير يستحسُّ جيبَه، وصار الموظف يقصد بنكه، من أجل الاقتراض لمواجهة تكاليف شهر رمضان، في طبعاته الجديدة، والمختلفة كليا عن الطبعة الأصلية.. ثم لكل انتهازي هدف من رمضان.. فالسياسي يرى فيه فرصة للزيادة في الأسعار، والتاجر يرى فيه مناسبة لبيع سلع أصابها من قبلُ البوار، وفقيه يجد فيه فرصة لإسهال كلامي مكرور تردّد عبر العصور، ولم يغيّر شيئًا من قتامة الديكور، حتى صار وعظه وإرشاده مجرد روتين معروف لدى الجمهور؛ ثم دخل المغنّي، والمغنّية على الخط، ليساهما بالغناء وبالكلمات اللّعوب في إثراء ليالي رمضان الفضيل؛ ثم جاء أهل التمثيل والضحك على الذقون، عبر التلفزيون، ليساهموا هم كذلك في حصص القهقهة، لينالوا هم كذلك [أجرهم وثوابهم] في شهر الصيام، ففتحت لهم القنوات أبوابها، حتى صارت لهم صولة، واستحالوا إلى قدوة، بل صاروا، هم ملح رمضان، أضف إلى ذلك، مسابقات، ورهانات تُدفع فيها الملايين للمتبارين في البلاطوهات.. وقنوات أخرى، تشيع مذاهبها الهدامة، باسم رمضان، عبر أحاديث موضوعة، وروايات ملفّقة، حتى باتت هذه القنوات أخطر بكثير من قنوات الرقص، والغناء، والمسابقات... لكن شهر رمضان، هو في الواقع، شهر العقل، حيث تخبو نزوات النفس، فيكون الإنسان أكثر نباهة، واستيعابا وتركيزا من الأيام الأخرى، حيث تطغى أهواء النفس على ملكات العقل.. ففي هذا الشهر يكون من الممكن، ومن السهل، مناقشة قضايا تهم المجتمع، اجتماعيا، وتربويا وقس على ذلك.. ففي هذا الشهر يمكن مناقشة إصلاح التعليم، مثلا، مع تحسيس المواطن بمسؤوليته في تربية أبنائه، ومراقبتهم، وتتبُّع مسارهم الدراسي، وهذه هي نقطة الانطلاق في الإصلاح باعتبار الأسرة الخلية الأولى في المجتمع.. في هذا الشهر الذي تُحْبَط فيه النفس الأمّارة بالسوء، ويتوقّد العقل، يمكن مناقشة قضايا الإرهاب الذي يقع في حباله عدد من الشباب المغرر بهم، بخطاب جديد علمي وهادف.. في هذا الشهر الكريم، يمكن مناقشة قضايا الطلاق الذي يشتت الأسر، ويهدم البيوت، ويشرّد الأطفال، الذين سيرتكبون الجرائم، ويملؤون السجون مستقبلا.. في هذا الشهر، شهر مكارم الأخلاق، يجب مناقشة تراجع الأخلاق، بشكل علمي عبر وسائل الإعلام، التي ينبغي أن تتجند لهذا تماما كما تتجند في الحملات الانتخابية، والمهرجانات الموسيقية الداعرة، وخلال التظاهرات الرياضية، ما دام الأمر يتعلق بمصير الأمة واستقرارها، ومستقبلها.. خلاصة القول، هو أن المشكل يكمن في العقل.. فالعقل القاصر الذي جعل الإرهاب جهادا، هو نفسه العقل الذي حول رمضان إلى شهر بذخ واستهلاك ورقص وطرب، مع العلم أن الإسلام هو دين العقل [أفلا تعقلون..]..