أيها الأصدقاء، أستأذنكم هذا المساء في بعض الكلام عن رواية. كان أفضل أن أقول مسرحية، غير أني ابتعدت عن المسرح، أو أنه نفر مني منذ عقود. لا بأس إذن في حضرة أهل القلم الذي سيبقى ما سرت الدماء في العروق، أن أقتبس شيئا من فنون الإبداع. وقد وجدت في مبادرة تكريم السي محمد من طرف اتحاد كتاب المغرب إبداعا في حد ذاته. فتوزيع الكتاب أو الصحيفة، مثل نشرهما ليس مجرد حرفة تدون على أوراق ثبوتية، ولكنه اختيار أبعد ما بعد الفكر. وإني لأجرأ على القول إن عرض فصول رواية غير افتراضية، أو الانتشاء بكأس قصيدة أو مداعبة أطراف قصة قصيرة، يبقى عصيا في حضرة أهل الفكر والإبداع الذين جاءوا والذين حضرت أطيافُهم، كما الذين غابوا في أسفار لم يعودوا منها. لا أجمل إذن من أن نتصفح هذا المساء فصولا من رواية الزمن المغربي. فهي تبدأ من فكرة بسيطة، ثم تتموج وتتشمخ لتصبح قضية كبيرة. شعار من ثلاث كلمات، سيكون له أثر نافذ ومتنفذ على امتداد أربعة عقود. »صحيفة لكل مواطن« ، يا لها من فكرة جذابة تستهوي العقل والروح، في بلد تستعصي فيه القراءة حتى على المتعلمين. نبتت الفكرة في ذهن الرجل، في وقت كان يسود فيه منطقُ : رغيف وكأس شاي، تنقصه حلاوة السكر والعيش لكل مواطن. ماذا يريد هذا المجنون بسحر القراءة؟ البعض يريده خبزا حافيا، كما في سيرة الراحل محمد شكري. والبعض يريده قيدا على مِعصم كل مواطن. وهذا »البرادة« يرغب في أن يحشو عقول الناس بأخبار وتحليلات واستقراءات الصحف. لعله قدم من جزيرة أخرى مبشرا بعهد القراءة المُشاعة بين الجميع. كان أعزل بلا سلاح، نثر كل البذور التي يملكها في حقول يابسة تتطلع إلى قطرات المطر الأولى. كان فقيرا، كما هو الآن أكثر فقرا من العيوب والمؤاخذات. غير أنه لم يذهب في اتجاه رجال أعمال يطلق عليهم الخواص، بعد أن خوصصوا البر والبحر والسماء، بل اقتفى أثر حدس قاده إلى استنشاق رائحة مداد المطابع. يا لها من فكرة رائعة، الجنرال أوفقير يكسر المطابع ويحجز الصحف، وأحفاده من صفوف المدرسة الأوفقيرية يواصلون جرف التربة. وهذا »البرادة« يسعى لجمع شمل الصحافة في مشروعه الذي لم ينل منه العناء، جريدة لكل مواطن. فكرة بسيطة سيخوض بها ومن خلالها حرب عصابات ضد مراكز نفوذ تحتكر توزيع الصحافة، وتبث معرفة انتقائية على ذبذات باريس وليس انشغالات الرباط. هنا الرباط، هنا الدارالبيضاء، استوى السي محمد على كرسي من خشب غير وتير، وشرع في بثّ تجريبي للمشروع، يرافقه الرواد سيدي حفيظ القادري وعلي يعتة ومصطفى القرشاوي ومناصرون لا يزيد دعمهم عن حلو الكلام والدعاء بالتوفيق. شركة جديدة لتوزيع الصحف، لا يملكها أصحاب المال والنفوذ السياسي، ولكنها أقرب إلى شراكة في الحلم، تتدحرج على قدر العزائم من أعلى إلى أسفل، ومن تحت إلى ما هو أعلى من فوق، انتهى عهد احتكار توزيع الصحف، ولابد من فعل شيء يجعل المولود الجديد يترجل حتى قبل فطامه. حروب صغيرة ودسائس كبيرة، وهذا البرادة يواجه نفسه الآن، يقتطع وقته ما بين ردهات المحاكم وبين التغلغل في أحياء شعبية لوضع علامات الطريق، مقر صغير في بلفدير وآخر أشبه بكراء بيت مع الجيران في الرباط، وثالث في مرآب اعتلى جدرانه الصدأ. المشاريع الكبيرة تبدأ بأفكار صغيرة. لا بأس من اقتطاع ثمن حليب الأطفال وإرجاء دفع ديون البقال من أجل اقتناء وسيلة نقل الصحف. سيارة ودراجة نارية وإصرار كبير في عِناد إعلان الوجود. أتذكره الآن، استبدل السي محمد محفظته التي كانت تضم ثنايا مشروع الحلم، واستقر في مكتب صغير يوزع المسؤوليات، يبدأ نهاره حين يتقلب آخرون على الجانب الأيسر أو الأيمن لمواصلة النوم. فطوره مداد يسيح على بياض الصحف. وأجندة بمواعيد القطارات والحافلات والتزامات لا يريد إخلافها مع قارئ منسي في جبال الأطلس أو تخوم الصحراء. التوقيت أولا. يقال عادة السياسة هي التوقيت، لكن محمدا سيرسخ الاعتقاد أن الصحافة هي التوقيت أيضا. المايسترو ينظر إلى ساعته يرقب وصول الجريدة. لم يفعل ذلك من أجل أن تكون نجلته في صف المدرسة في الموعد المحدد. فقد نسي أن له مسؤوليات عائلية. هي ذي أسرته الكبيرة من رفاق مهنة المتاعب تزيد اتساعا. لا يدخل يده في جيبه إلا من أجل أن يتذكر صديقا ألمَّ به طارئ. أصبحت سابريس مربض الخيل. فقبل أن يبشرنا الرسميون بالتغطية الصحية، كانت سابريس مؤسسة قائمة الذات تشع منارتها على الصحفيين المتصفحين. الآن كبر المشروع. وهذا البرادة حين يغضب يردد أنه سيذهب إلى كندا. لا يا سيدي، فالكندا موجودة هنا. والرواية التي أتشرف بعرض بعض تفاصيلها اسمها محمد برادة. وبطلها ليس سوى محمد هو نفسه الكاتب والناشر والموزع. ولنشرب نخب رواية اسمها »برادة« حافيا بلا ألقاب. محمد الأشهب