خالد أبو شكري تدفع موجة الجفاف الحاد التي تعصف بكينيا, قطعان القردة إلى المغامرة أكثر فأكثر خارج المنتزهات الطبيعية والمحميات المخصصة لها, لتتحول بذلك من كائنات وديعة, إلى حيوانات ضارية, ما انفكت تدخل في نزاع مفتوح مع الأهالي, في سياق بحثها الدؤوب عما يضمن لها أسباب البقاء. ويوضح موزيس لوتورو من المصلحة الكينية لحيوانات الغابة بمحمية ناكورو (غرب), متحدثا إلى عدد من السياح قبل أن يحذرهم من عدوانية هذه الحيوانات "خلال هذه الأوقات العصيبة", أن القردة تعتمد استراتيجيات مختلفة من أجل ضمان غذائها ولا تعول على مصدر وحيد للقوت. ولم يكن ليدوم طويلا اندهاش مجموعة السياح, التي لا تحتفظ في ذاكرتها على الأرجح سوى بصور حيوانات وديعة تقضي بياض نهارها تفلي القمل, وهي تتابع مذهولة هجوما كاسحا شنته هذه المخلوقات على سيارة زوجين غير منتبهين من الزوار, على المنحدر المؤدي إلى إحدى البحيرات. وفي لمح البصر, أتت أصابع هذه الحيوانات, المعروفة بخفتها وبأنيابها القوية, على جميع محتويات السيارة, وغدا مجرد أثر بعد عين كل ما كان يتضمنه صندوقها الخلفي الذي ترك مفتوحا, من مؤونة, بل واستلزم الأمر تدخل حراس المحمية حتى تعود هذه المخلوقات لتتسلق مرتفعات الجرف من جديد, محملة بما استطاعت اقتناصه من غنائم. والحال أن موسم الجفاف, الذي يعتبر مرحلة عصيبة بالنسبة للوحيش في هذا البلد من شرق إفريقيا, زاد تفاقما مع توالي أربعة فصول من ندرة التساقطات, مما أثر سلبا على طبيعة وسلوكيات هذه الكائنات التي كانت, بالأمس القريب فقط, تتعايش في سلام مع البشر ببعض المناطق الحضرية. ولا غرو, فهذه الحيوانات القارتة التي تقتات عادة على أصناف من النباتات والكائنات الفقرية, من حشرات وعناكب وعقارب, فضلا عن غيرها من صغار الفقريات مثل القوارض الصغيرة, سرعان ما تتحول شهيتها إلى شره حقيقي وهي تطارد, على شكل عصابة منظمة, صغار الغزلان لكن, يوضح موزيس لوتورو, "دون السقوط في الشراسة والعدوانية". غير أنه بتعذر وجود مثل هذه الوجبات بشكل كاف, لم يجد النسناس الوديع من بديل آخر سوى أن يتحول إلى حيوان شرس لا يتورع, في رحلة بحثه عما يسمح له بسد رمق الجوع عبر الفيافي المقفرة والروابي الخاليات, غير الهجوم على بلدات الأهالي من أجل تأمين البقاء ففي أحد مخيمات العراء التي تعتبر "الأكثر أمنا" لكونها تبدو كحصن مكين, حتى الفراشات غدت أكثر حذرا, وباتت تتفادى الاقتراب من هذه المخلوقات, على الأقل في واضحة النهار, في مشهد يوحي للزائر بأنه في حديقة للحيوانات, لكن في وضع مغاير. وبالطبع لم تكن المطابخ الريفية لتبقى في منأى عن هذا الوضع غير الاعتيادي ما دامت محاطة بسياجات حديدية تحمي المؤونة, فيما تظل أعين القردة ترصد من الخارج أدق حركات الطباخين وأدنى هفوات غفلتهم, لتشن هجوما كاسحا قد لا يبقي ولايذر. صحيح أن هذه الحيوانات تبقى بعيدا نسبيا عن المخيم, من حيث يلقي إليها الوافدون الجدد, بعد نصب خيامهم, بعضا من الفواكه والحلويات, لكن الأكيد أيضا أنه عند الخروج من موقع هذا الحوض المائي, الذي يحل به حوالي 200 صنف من الطيور في طريقها نحو الهجرة, ليس من المفارقة أن يطالع الزائر منظر فريق من النادلين مسلحين بعصيهم الطويلة, وهم يطاردون القردة المتوثبين, من أعلى أغصان الشجر, من أجل السهر على راحة مجموعة من السياح يتناولون طعامهم. ولا غرابة, فخلال الشهرين الماضيين أصيب ما لايقل عن عشرة أشخاص بجروح جراء هجمات شنتها هذه المخلوقات التي تقاتل من أجل البقاء, علما بأن هذه الهجمات تفاقمت حدتها إلى حد مقلق, استنفرت معه طاقات المعهد الكيني للبحث في الحيوانات الثديية. ذلك أن هذا النوع من "القناصة" الجدد, باتوا مصدر متاعب حقيقية للأهالي, لاسيما في مقاطعة "بورا" حيث أجهزوا على قطيع قوامه 180 رأس من الماعز والبقر, ناهيك عما باتت تمثله هجماتهم من أخطار على وجود الكائن البشري, إن تواصلت مرحلة الجفاف بحدتها. وبلغت مخاوف الأهالي إلى حد منع الأطفال من الخروج من بيوتهم حتى لا يتحولوا إلى فريسة سائغة بين أنياب هذه الحيوانات التي تتضور جوعا, وهو التخوف الذي أكده إيريغي موينجا من نفس المعهد بقوله "إن الخطر بات حقيقيا مادام أنها (الحيوانات) باتت مستعدة للهجوم من أجل ملئ بطنها ولو باللحم الآدمي للأطفال", محذرا رغم ذلك من عدم التسرع والانسياق وراء مواجهة مفتوحة ما بين الأهالي وحيوانات مفترسة تبحث عما يضمن لها أسباب البقاء. ففي مطلع شهر أكتوبر الجاري, كادت أن تفضي محاولة لطرد قردة من داخل مدرسة بمنطقة واجير (شرق) إلى كارثة, عندما أصيب تلميذ برصاصة طائشة وجرحت تلميذة أخرى جراء تدخل لعناصر من مصالح الشرطة هرعت إلى عين المكان.ويبدو أن الجفاف وما يلازمه من جوع وخصاص, لم تدفع بفصيلة القردة وحدها إلى الشراهة, ولو أنها تسببت في شهر ماي الماضي في مقتل حوالي ألف رأس من الأغنام والماعز بمنطقة بوكوت (شمال غرب), مادام أن ضبعا لم يتوان, يوم الجمعة الماضي, عن افتراس طفلة في الخامسة من عمرها, قبل أن يلقى حتفه بدوره على أيدي الأهالي الذين هبوا متأخرين لنجدة الفقيدة.