ما بين نونبر 2010 ويناير 2012، تغيرت كثير من المعطيات سواء داخل المغرب أو داخل الجارة إسبانيا، بعد المسيرة المليونية التي نظمتها الأحزاب الممثلة داخل البرلمان ضد الحزب الشعبي الإسباني، يعود اليوم رئيس نفس الحزب إلى الواجهة السياسية كرئيس للحكومة الإسبانية، حيث قام أول أمس الأربعاء بأول زيارة رسمية له خارج مدريد منذ تقلده زمام السلطة، زيارة وإن كانت قصيرة، وطغى عليها الجانب الدبلوماسي إلا أنها تحمل في طياتها كثيرا من الرسائل السياسية التي سيكون على بنكيران تدبيرها في المرحلة المقبلة، وفق المصالح العليا للمغرب، وخاصة وحدته الترابية، التي ظل الحزب الشعبي اليميني ينكرها على المغرب. ثلاثة ملايين مغربي لإدانة الحزب الشعبي شكلت المسيرة الشعبية التي نظمت في الدارالبيضاء في نونبر من سنة 2010، ردا قاسيا على الحزب الشعبي، الذي كان آنذاك يستعد لدخول غمار الانتخابات التشريعية، وكان واضحا أن الحزب الشعبي اليميني بنى حملته الانتخابية على عدائه للمغرب، ومصالحه العليا، وكان لافتا أن راخوي يسعى إلى استمالة جزء من الناخبين الإسبان عبر دغدغة مشاعرهم بشأن المهاجرين وسبتة ومليلية ومشكل الصحراء المغربية، وشكلت المسيرة المليونية التي دعت إليها الأحزاب المشاركة في البرلمان وبينها العدالة والتنمية الذي يرأس الحكومة اليوم، رسالة واضحة ل "جزء من اليمين" الذي لم يتخلص بعد من "النظرة الاستعلائية والتحقيرية" ولايزال "يحن إلى الماضي". وهي الصورة التي ظل المغاربة وخاصة الساسة منهم يرسمونها للحزب الشعبي الإسباني الذي بنى جزءا من سياسته الخارجية على علاقته مع جمهورية الوهم، وهجومه المتواصل على المغرب. صعود اليمين الصدام المؤجل رغم أن راخوي أبدى كثيرا من التفاؤل بشأن علاقة إسبانيا بالجار الجنوبي، وأبدى أيضا كثيرا من الحماس من أجل تدبير المرحلة المقبلة في أجواء من الثقة، إلا أن المراقبين أكدوا أن جدار الإسمنت الذي يفصل المغرب عن الحزب الشعبي الإسباني لازال قائما، وقد يحتاج إلى الوقت والصبر لتفتيت أجزائه، منذ أيام، ففي سنة 2010 كتبت جريدة « إل باييس » الإسبانية، المقربة من اليسار، أن المغرب متخوف من صعود اليمين إلى الحكم في إسبانيا، وذكرت آنذاك بالشعار الذي رفع في شوارع المدن المغربية، وهو أن الحزب الشعبي عدو المغرب، وهو الحزب نفسه الذي تحول إلى شريك سياسي وتجاري سيكون على المغرب التعايش معه خلال السنوات القادمة، ولم تنجح الزيارة البروتوكولية التي قام بها راخوي في محو الصورة العالقة في أذهان المغاربة، في انتظار إجراءات حسن النية من الجانب الإسباني الذي سيكون عليه تدبير علاقته بالمغرب بكثير من الحكمة ليس فقط في جانبها السياسي ولكن أكثر من ذلك في جانبها التجاري، وهو ما يحتم على حكومة بنكيران التعامل بكثير من الحذر مع الحزب الشعبي الحاكم الذي لا يمكن أن يغير علاقته العدائية مع المغرب بعد زيارة واحدة، خصوصا، أن راخوي لم يقدم أي إشارة على رغبة حزبه في تجاوز خلافات الماضي، سيما ما يتعلق بمشكل الصحراء. كما أن مصير علاقة البلدين هو بين يدي راخوي وحزبه، الذي شهدت العلاقات بين البلدين أكبر الأزمات في فترة حكمه، خصوصا في عشر سنوات الأخيرة. تاريخ طويل من العداء طيلة ثلاثة عقود عمل اليمين الإسباني، على بناء قاعدة واسعة وسط جمعيات المجتمع المدني وأيضا في الجامعات الإسبانية، لدعم أطروحة الانفصاليين ماديا ومعنويا، والضغط على الحكومة الاشتراكية لاتخاذ مواقف أكثر حدة إزاء قضية الصحراء المغربية، وظل هذا العداء المستحكم يخرج إلى العلن كلما اندلعت أزمة جديدة على مستوى ملف الصحراء المغربية، مثل ما حصل مع أمينتو حيدار التي وجدت الحضن الدافئ لدى اليمين الإسباني، أو في الأحداث الدامية التي شهدها مخيم كديم إزيك بالعيون، حيث ظل هذا اليمين يستغل مثل هذه الأحداث من أجل تمرير قرارات تدين المغرب، سواء في البرلمان الإسباني، أو حتى الأوربي، ولعب نواب الحزب دورا كبيرا في رفض اتفاقيتي الشراكة في الفلاحة والصيد البحري مع المغرب، بدعوى حماية المصالح الإسبانية، قبل أن يعود نفس الحزب اليوم للمطالبة بإعادة النظر في اتفاقية الصيد البحري وتوقيعها في أقرب وقت حماية لمصالح الصيادين الإسبان العاطلين اليوم عن العمل. سبتة ومليلية ولعبة القط والفأر اتخذ الحزب الشعبي الإسباني من مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، ورقة ضغط على المغرب. وكان هذا الحزب من أشد المدافعين على زيارة الملك خوان كارلوس لهما، كدلالة رمزية قوية لإسبانيا، وهو الأمر الذي تحقق في نهاية المطاف، مما أرخى بظلاله على علاقة البلدية التي تشهد كثيرا من التوتر، وهو التوتر الذي زاد خلال زيارة قام بها راخوي نفسه، إلى مدينة مليلية في ذكرى احتلالها، زيارة أثارت كثيرا من الجدل حسمه راخوي بالقول "جئت إلى مليلية لأنني رغبت في ذلك، ولأنه تمت دعوتي... وأتحرك في كل التراب الإسباني بشكل عاد"، لكن راخوي لم يقل آنذاك، إن الزيارة هي حملة انتخابية تهدف إلى جذب أكبر عدد من المصوتين، ففي تلك الزيارة عاد الحزب الشعبي، ليستعمل ورقة سبتة ومليلية في حملته الانتخابية، حيث التقى خلالها عددا من سكان المدينتين المسلمين، والتقطت له صورا في مليلية يعانق فيها مسلمات بالجلباب المغربي، أثارت الكثير من الجدل. ورغم الرسالة التي بعث بها رئيس مدينة مليلية، والنائب عن الحزب الشعبي، خوان خوسي إمبرودا، لتلطيف العلاقات بين البلدين، فإن الأجواء ظلت ملبدة، ففي تلك الرسالة قال إمبرودا، "إذا فاز الحزب اليميني في الانتخابات، ليس على المغرب أن يخشى شيئا... وأن الحزب سيعمل على تعزيز علاقات الجوار والصداقة مع المملكة المغربية". الحزب الشعبي أيضا كان وراء الضغوط التي تمت ممارستها على الحكومة الاشتراكية، من أجل منع المغاربة الذين يحملون جوازات سفر تضم اسم المغرب إلى جانب سبتة ومليلية من دخول المدينتين. راخوي يرسل رسائل اطمئنان مباشرة بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات الإسبانية والتي أعلنت فوز اليمين بالأغلبية الساحقة، خرج راخوي ليقول، إنه ليس على أحد أن يخشى شيئا... فلن يكون هناك عدو أكبر من البطالة والأزمة، تصريح فهم منه أنه موجه إلى المغرب بالدرجة الأولى، وظل الجميع ينتظر الوجه الذي ستكشف عنه الحكومة الجديدة، رغم الإشارات المختلفة التي كان يبعثها الحزب أخيرا، لأن كل الدروس السياسية تؤكد أن الفرق كبير جدا بين كرسي المعارض وكرسي الحاكم. جزيرة ليلى الذاكرة المؤلمة يتذكر المغاربة الأزمة الخطيرة التي اندلعت بين المغرب وإسبانيا على خلفية أحداث جزيرة ليلى التي اندلعت قبل تسع سنوات، والتي كادت تتحول إلى حرب حقيقية بعد استدعاء المغرب سفيره في إسبانيا واستعراض الحكومة الإسبانية، برئاسة خوسي ماريا أثنار، قوتها، ملوحة باستخدام القوة العسكرية، قبل أن تتدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا للحيلولة دون نشوب مواجهة عسكرية. منذ تلك الفترة استمرت العلاقة المتوترة بين البلدين، إلى حين صعود الاشتراكيين إلى الحكم مستفيدين من أحداث مارس الإرهابية التي أودت بعشرات الضحايا الإسبان، بعد تفجير قطار مدريد، وهي الأحداث التي قلبت الحكم في إسبانيا رأسا على عقب، وعاقب الإسبان حزب ماريا أثنار الذي فشل فشلا ذريعا في تدبير علاقات إسبانيا الخارجية خاصة مع جاره الجنوبي. ورغم التحولات السياسية التي عرفتها إسبانيا في تلك الفترة بصعود خوسي لويس رودريغيث ثاباتيرو، وقيامه كما هو متعارف بأول زيارة خارجية إلى المغرب، فإن الحزب الشعبي حافظ على سياسته العدائية تجاه المغرب، التي تختلط فيها النظرة الاستعلائية بالحمولة التاريخية للجار الجنوبي، مستغلا كل الفرص من أجل استهداف المغرب ومهاجمة سياسة الحكومة الاشتراكية مع المغرب، خصوصا في قضية الصحراء المغربية. الصحراء المغربية خط أحمر يشكل ملف الصحراء المغربية تحديا كبيرا وعقبة حقيقية أمام الدبلوماسية المغربية، إذ أنه يظل بمثابة ورقة سياسية رابحة في يد إسبانيا، تشهرها في وجه المغرب، كلما لاح في الأفق توتر ما بين الطرفين، لتهدد من خلالها سيادة المغرب الشرعية على أقاليمه الصحراوية. وقد تغير ذلك الموقف التقليدي ولو جزئيا بمجيء الحكومة الاشتراكية بزعامة خوسيه لويس ثاباتيرو، التي ساندت مشروع الحكم الذاتي المغربي في الصحراء عوض حق تقرير المصير، فيما ظل موقف الحزب الشعبي اليميني ضد مصالح المغرب، مما قد يؤثر من جديد على العلاقات بين البلدين سيما أن هذا الملف ظل رهينا بنتائج صناديق الانتخابات الإسبانية، التي تحدد الحزب أو الأحزاب الرابحة، التي توجه الموقف الإسباني الحقيقي من ملف الصحراء المغربية، إما على حساب المغرب كما كان الحال مع حكومة أثنار اليمينية السابقة، أو لصالحه كما هو الشأن بالنسبة إلى حكومة ثاباتيرو الاشتراكية الحالية، واليوم، لازال الغموض يكتنف موقف الحزب اليميني مع زعيمه راخوي الذي يبدو أكثر تشددا من زعيم الحزب السابق أثنار. الصيد البحري قوة المغرب في علاقته بإسبانيالم تكد حكومة راخوي تثبت أقدامها حتى سارعت إلى تقديم طلبين للاتحاد الأوروبي الأول ينص على تجديد اتفاقية الصيد البحري مع المغرب لإنقاذ صيادي إسبانيا من العطالة، والثاني، يطالب بتشديد المراقبة على صادرات المغرب الزراعية للسوق الأوروبية لإنقاذ فلاحيها من الخسارة، وكشف وزير الزراعة والصيد البحري أرياس كانييتي الأسبوع الماضي أنه تقدم إلى الاتحاد الأوروبي بطلب يحثه فيه على تجديد اتفاقية الصيد البحري، لأن أسطول الصيد الإسباني هو الأكثر تضررا بحكم أن السفن الإسبانية كانت قرابة 80 في المائة من مجموع السفن الأوروبية التي كانت تصطاد في المياه المغربية، أما رئيس الحكومة راخوي فاعتبر أن تجديد الاتفاقية هو من ضمن أولويات حكومته خلال الفترة الراهنة. الوزير كانييتي، اعترف أيضا بالضغط الذي تمارسه مدريد على المفوضية الأوروبية لكي يحترم المغرب الحصة المخولة له في الصادرات الزراعية وخاصة الطماطم، وقال، إن "الحكومة الإسبانية تصر على احترام الاتفاقية الموقعة وسنكون صارمين في المراقبة، وسنطلب من المفوضية الأوروبية أن تضمن الدخول المتفق عليه للصادرات الزراعية المغربية دون تجاوز الكميات المخول بها". مواقف الحكومة الإسبانية في الملف الزراعي والصيد البحري تبدو في الظاهر متناقضة لكنها في نهاية المطاف لا تخدم سوى مصالحها، مما يحتم على الحكومة الحالية الأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات، لكي تحافظ على مصالحها السيادية، خصوصا، أن المغرب يوجد في موقع قوة أمام جاره الإسباني الذي يحتاج إلى المياه المغربية لتخفيف جزء من أزماته الاقتصادية.