كنتُ في مقالة سابقة، قد رويتُ قصة فيلسوف فرنسي يدعى "فولتير" الذي دخل سجن "لاباستيل" بسبب نقْده للحكومة، التي باعت نصف حمير وبغال الدولة، بسبب أزمة مالية خانقة، وكان رأي "فولتير" يقضي بأن يتم تسريح نصف الوزراء والبرلمانيين، بدل بيع دوابّ الدولة، وهي أنفعُ للشعب من هؤلاء الأكلة الذين يلتهمون خيرات الأمة، وهُمُ الأصل في الأزمة.. لكنْ في هذه المقالة سوف أورد قصة أديب عربي كبير، دخل السجن بسبب إدانته للفساد، وفضْحه للوصوليين والانتهازيين والكذَبة، ويتعلق الأمر بعباس محمود العقّاد، الذي وجد نفسه وراء القضبان، بعدما فضح العيوب، وندّد بالمتحزّبين، وهاجم السياسيين الفاسدين صراحة، وعدّد مساوئهم، وشنّع على الحكومة، وسفَّه سياستَها، وكشف عورة الأحزاب وكذِبها ونفاقها، يساندها في ذلك مثقفون مزيَّفون، ومنافقون بأجرة.. وفي السجن، ألّف "العقاد" كتابا حول "شخصية إبليس".. وقد يتساءل القارئ عن الطريقة التي عرف بها "العقاد" شخصية إبليس، مع العلم أن هذا ضربٌ من المواضيع الميتافيزيقية، التي لا مجال فيها للتجربة، فكيف عرف الكاتب هذه الشخصية؟ الجواب هو أن "العقاد" اعتمد على شخصية الأباليس التي رآها في مجال السياسة، وفي الأحزاب وتحت قبة البرلمان، فكوّن فكرة عن شخصية إبليس، استنادا إلى شخصية أتباعه في ميدان السياسة، وفي معابد الأحزاب الحرْبائية، وتحت قبة برلمان الرّياء والصّلف والبهتان.. لقد تابعتُ يوم الثلاثاء 22 دجنبر 2015 الجلسة البرلمانية التي شرح فيها "بنكيران" الدوافع التي حتمت "إصلاح" صندوق التقاعد، حيث كرّر نفس الأسباب التي دُرجْنا على سماعها منه من يوم وجّه فوهة مدفعه نحو هذا الصندوق البائس، ولكن الذي أغراني بمتابعة الجلسة هو ما أصبحت تتّسم به تدخّلات "بنكيران"، من هزل، وفكاهة، ممّا يذكّر بمسرحية "حلاّق إشبيلية" للمسرحي الكبير "بومارشيه"، وهي المسرحية التي أوحت للمسرحي المغربي المعروف "الطيب الصّديقي" بمسرحية "المعلّمْ عزّوز" الناجحة نصّا، وإخراجا، وأداءً.. فمسرحية "حلاق إشبيلية" أصبحت اليوم تُمثَّل على خشبة البرلمان ببلادنا، أمام حشد من نواب يلعبون دور [la clame] وهم الذين يكون دورهم التصفيق، طيلة فصول المسرحية، لكنْ بأجرة متفق عليها سلفا، وهو ما شاهدناه في قبّة البرلمان تلك الأمسية.. لقد أعطى "بنكيران" أمثلةً بست دول أوربية، من بينها "بولونيا"، مع العلم أن الأسباب التي حدَت بهذه الدول لاتخاذ إجراءات بخصوص التقاعد، تختلف عن الأسباب التي يتذرع بها بنكيران للإجهاز على حقوق المتقاعدين.. فإجراءات هذه الدول فيها امتيازاتٌ للمتقاعدين، وليس فيها مسٌّ بأبسط حقوقهم، فيما إصلاح بنكيران فيه حيْف، وظلم، وإجحاف بحقوق من أفنوا عمرًا في خدمة الوطن، كما فيه تستّر عمّن كانوا وراء إفلاس الصندوق، حيث صرفت أموالُه في مشاريع أفلستْ بسبب رداءة التسيير، وسوء التدبير، فكان على الموظفين والعمال تحمّل تبعات ذلك، حفاظا على امتيازات الليبرالية المتوحّشة، والرأسمالية المتغوّلة؛ هذه هي الحقيقة التي يصعب إغفالها، رغم الضبابية التي تثار حولها بهدف التضليل. فحقوق المتقاعدين في الإسلام الذي يدّعيه بنكيران، لا يجب أن يكون لها صندوق خارج أسوار الأمة وكأن المتقاعدين نفايات بشرية لم تعد صالحة؛ بل هذه الحقوق يجب أن تكون ضمن ميزانية خزينة الدولة، وتُرصد لها أموالٌ تماما كما تُرصد للانتخابات، والأحزاب، والمهرجانات، وقسْ على ذلك، لارتباطها بكرامة المواطن، وإلاّ فُقدت الثقة، مع العلم أن هذه الأمور هي قمة حقوق الإنسان بلا منازع، وواجب الدولة بلا نقاش.. كيف يُعقل أن يُؤخذ من المواطن شبابُه، وعند شيخوخته يُترك كما يُترك بغْلُ عربة البلدية العجوز.. رأى عمر رضي الله عنه يهوديا يتسوّل على قارعة الطريق فقال: أخذْنا منه الجزية عندما كان يانعًا ثم أهملناه عندما صار شيخا؛ فأمر له بمبلغ يحفظ كرامته في أمّة الإسلام، رغم كونه يهوديا؛ لكن "بنكيران" يفعل العكس بالمتقاعدين المسلمين، في دولة الحق والقانون.. هل هذا معقول؟ هل من حق صاحب الدعوة إلى الله، أن يقلّد "بولونيا" ويهْمل سياسة الفاروق رضي الله عنه، وهي أقرب للتقوى من دول علمانية، ينتقدها بنكيران وحزبُه الإسلامي؟ "كبُر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".. ثم المصيبة أن كل النواب، انحازوا إلى قراره، ما دام لم يتطرّق إلى قضية تقاعدهم، الذي سيتقاضونه بغير حق، من مال الأمّة، وعلى حساب الأمّة. ثم لماذا يُطبَّق الإسلام فقط في الإرهاب، والقتل، والغدر، وتُبرّر به كلُّ المصائب، ولا تُطبَّق تعاليمُه في الحقوق، والعدل، والأموال، ومن أجل ذلك جاء الإسلام أساسا، كثورة ضد الفقر، والظلم، والجهل؟ أجيبوني أنتم! قال بنكيران خلال تلك الجلسة: "من كان على حق، يكفيه أن يتصل بي عبر الهاتف، وأنا أنفّذ ما يأمر به"؛ الله أكبر، فما أحْوجنا لأمثالك يا بنكيران؛ لقد ذكّرتنا بسيدنا عمر رضي الله عنه، يوم رفض توزيع الفيْء بدعوى المحافظة على مستقبل الأجيال، تماما كما تفعل أنت بمسألة التقاعد اليوم؛ ولكنّ سيدنا بلال؛ العبد؛ الحبشي؛ الأسود عارضه معارضة عنيفة، وجمع حوله المعارضين، فما كان من عُمر إلا أن رضخ للحق، وقال مبتسما: "اللهم اِكْفني بلالا وأصحابه!".. لكنّ بنكيران، رغم معارضة زعماء النقابات، ورغم مسيرات شعبية، ورغم انتقادات صحف ملتزمة، لم يرضخ للحق، واعتبر كلّ هؤلاء على خطإ، وهو الوحيد الذي على صواب؛ وهذه خصلة من خصال الديكتاتور، وهي التي أدت إلى دمار الدول وخراب الأمم.. وآخر دعوانا أنِ اللهم اِكفِنا بنكيران وحكومته، وعجّل اللهم بذهابه قبل أن تعمَّ الكارثة بسبب اعْوجاج سياسته، ومشين أفعاله. آمين...