في بعض الأحيان، يحاول المرء أن لا يُصَدِّق ما يسمعه أو يقرأه من إجراءات أو قرارات، ويُجْهِدُ نفسه على أن يُكَذِّب ذلك تكذيبا على اعتبار أن ما قرأه وسمعه ليس معقولا أو لا ينبغي أن يكون كذلك. ومن بين هذه الإجراءات تخصيص حافز مادي، تحت اسم "مكافأة الحضور"، لِحَثِّ أعضاء مجلس المستشارين على المواظبة والإقبال على الجلسات البرلمانية التي تتم في غياب لافت للمستشارين. وتبلغ قيمة "المكافأة" ثمانمائة درهم عن كل يوم. العجيب أن هذا القرار يأتي بعد ذلك الذي أثار عاصفة من الانتقاد والرفض من قِبَلِ البرلمانيين أنفسهم والمتمَثِّل في الاقتطاع من أجور أو تعويضات "مُمثّلِي الأمة" الذين اعتبروا أن هذا القرار، عِلاَوَة على أنه مُجْحِف في حقهم، لا يحترم وضعهم ولا يُراعِي قيمتهم. وكان السبب الدافع إلى قرار الاقتطاع حثّ البرلمانيين على عدم التَّغَيُّب. المثير في الأمر أنه إذا كان الهدف واحدًا، أي تحفيز "ممثلي الأمة" على الحضور في مجلسي البرلمان، فإن الأسباب تختلف كُلِّيَةً: مجلس النواب رفع عصا الاقتطاع من التعويضات كوسيلة لوضع حدٍّ لظاهرة التّغَيُّب، ومجلس المستشارين يُغْرِي المستشارين بمنحة مالية لِدَفْعِهِم إلى الحضور. ولا يبدو أن البرلمانيين المعنيين سيقلبون وجوههم عن هذه المنحة فبالأحرى أن يُعَارِضُوها، عِلْماً أن "ممثّلي الأمة" يستفيدون من بطاقة النقل المجانية التي تُكَلّف مجلس المستشارين ما لا يقل عن ثمانية آلاف درهم في السنة لكل برلماني. وهناك حديث عن تَحَرُّكٍ وتنسيق بين مختلف الفرق في الغرفة الثانية من أجل الاستفادة من نفس الامتيازات التي يتمتع بها إخوانهم في الغرفة الأولى مثل المبيت في الفنادق القريبة من البرلمان والاستفادة من "بُورْتَابْلاَت سْمَارتفون"، وحديث آخر عن تموين سيارات "ممثلي الأمة" بالبنزين، أي "لِيصَانْص".. في انتظار "نضالات" أخرى للطبقة البرلمانية "الكادحة"، المهضومة الحقوق، لتحقيق المزيد من الامتيازات والمكاسب. لسنا في حاجة إلى الْقَوْل إن البرلمانيين بخير وعلى خير، وأنّهم في مَنْأَى عن الخَصَاص والحاجة؛ وهم أَبْعَدُ الناس عن الفقر والفاقة والهشاشة. حتى شبح الْعَوَز لا يُحيط بهم ولا يجرؤ على الاقتراب من ساحتهم. ومع ذلك، كم من برلماني نجيب ونشيط ومُجِدٍّ يواظب على الحضور بشكل مستمر؟ كم من نائب أَدَارَ ظهره لِقُبَّة البرلمان وقاعاتها البهية ولا يحضر إلاّ عند افتتاح السنة التشريعية الجديدة من طرف ملك البلاد؟ نريد أن نعتبر كل هذا وغيره ضَرْباً من الخيال. لكن الْفَهْمَ نفسه يستعصي على الْفَهْمِ. ولا يمكن إلاّ التصديق بهذا. إِنْ لم يكن كلّه فعلى الأقل بعضه. وهذا البعض هو الذي يخلق الحدث. رحم الله نواب زمان ما يُسَمَّى "سنوات الرصاص". كانوا ينتظرون إِنْ لم يكن كُلُّهُم فعلى الأقل جُلُّهُم العوض من الله. ولا مقارنة بين ما كانوا يحصلون عليه من تعويضانت وامتيازات وما أصبح يتمتع به خَلَفُهُم إضافة إلى التّفرُّغ الشبه الكامل الذي يُعْفِيهم من عناء الانتقال والتنقل وصداع الرأس لحضور جلسات البرلمان. كان النائب علي يعته، زعيم حزب التقدم والاشتراكية، يُشَكِّلُ لوحده فريقا برلمانيا (كان هو البرلماني الوحيد الذي يمثل حزبه). يستقل القطار، يوميا، من الدارالبيضاء إلى الرباط، ذهابا وإيابا، من أجل حضور جميع الجلسات وأشغال اللِّجَان. يتدخل ويناقش. يُشْرِف على شؤون حزبه، ويجتمع مع قادته وقاعدته، ويُدِيرُ جريدة "البيان" و.. و... لم يُسَجّل عنه أنه تَخَلّفَ عن الموعد فبالأحرى أن يتغَيَّب، مع إضافة أنه كان من أكبر النواب سِنّاً. لكنه كان أرجحهم عقلا وأكثرهم حُضُورا ونَبَاهَة. رحمه الله.