من أين يتولّد عدم الاستقرار وما يصاحبه من بلبلة وفوضى واضطراب؟ بكل تأكيد، لا يأتي ذلك البتة من فراغ، ما دام لكل ظاهرة طبيعية أو اجتماعية أسباب، [ومبدأ السببية] هو من الثوابت في سائر العلوم، أكانت طبيعية أو إنسانية، ولا أخال عاقلا يجادل في حقيقة علمية ثابتة كهذه، اللهم من كانت له مصلحة في حجب مثل هذه الحقائق، وأنّى له أن يفلح في ذلك.. فيوم كنّا مثلا نؤكد ونكتب ولسنا وحدنا، أن الفقر، والتهميش، والإهمال، والظلم الاجتماعي والاقتصادي تمثل كلها حطبا رطبا لنيران الإرهاب؛ كان المحلّلون الكذبة، والسياسيون النّفْعيون، يستخفون بهذه الأقوال، ويسفّهونها بدلائل واهية؛ واليوم صرتَ تسمعهم عبر الشاشات، يتراجعون عمّا كانوا به على الناس يكذبون، وخاصة منهم من فقدوا مناصبهم الحكومية، أو أحيلوا على الفطام ومرارته بعد فترة الرضاع وحلاوته.. فمثلا "بنكيران" وحزبه، وشيعته، كلهم كانوا يردّون مظاهر الإرهاب إلى الحيف، والفقر، والبطالة المتفشية في أوساط الشباب؛ بل إن "بنكيران" فسّر أحداث "أكديم إيزيك" بالفقر، والتهميش إلى درجة أن واحدا من حزبه عبْر قناة "دوزيم" علّق ساخرا، بأن مهرجانات الطرب والغناء لن تخفي مظاهر الفقر والتهميش، ولن تشغل الشعب عما يقاسيه من ظلم اجتماعي واقتصادي تعاني منه كل شرائح المجتمع المغربي هكذا كان هذا قبل أن يستغل "بنكيران" أحداث "الترويع العربي"، وقبل أن يأخذ بناصية الحكم، ويحوّله إلى "كِسْرَويَة"، استحال بها جابيا لا هاديا كما ادّعى يوم كان يضلّل المغاربة، ويمنّيهم بمفاجآت تشبه المعجزات، فصدّقه الشعب النبيل لحسن نيته، ولثقته في من ادّعوا الدعوة إلى الله وبها خدعنا "بنكيران" لله وصدق النبي الكريم: "من خدَعنا لله انخدعنا له".. واليوم، ترى "بنكيران" عبر سياسته، يفشي في البلاد كل ما يغذّي الغضب الشعبي، ويرسّب اليأس في الأعماق، ويطفِئ شموع الأمل، ويغرس بذور التذمر، ويضع بَيض الفتن في أعشاش كل المرافق، وهو البيْض الذي سيفقّص ذات يوم فراخ السخط، لتستحيل إلى كواسر مدمّرة، تنهال على الشعب بأسره، يوم يكون "بنكيران" بعيدًا عن السلطة، ويتملّى بما جنته سياستُه على هذا البلد الأبي النبيل.. يكفي أن نشير إلى أن عدد السجناء تضاعف في عهده، وزُمُر الخيانة نشطت في أيامه، وكمية المشاكل بلغت معدلات وبائية، ومظاهر الاحتجاجات تناسلت بشكل غير مسبوق، ثم إن "بنكيران" يقدّم رضَا الخاصة على رضا العامة، وهذا هو أصل البلاء كما يثبت التاريخ عبر الأزمنة والأحقاب؛ وهذه هي البذرة التي تتطوّر إلى الإرهاب، ما دام الإرهاب هو الشكل النهائي والمدمّر من أشكال السخط، ثم الضغط يولّد الانفجار كما يقال.. ألم تَرَ ما حدث في تونس، حيث تحوّل الاحتجاج ضد مَظْلمة إلى اضطراب، ثم تطوّر الاضطراب إلى إرهاب، وسياسة "بنكيران" تحمل في أحشائها مثل هذا الفيروس الفتاك. دعني أضرب لك مثلا بثلاثة قطاعات تكتسي أهمية قصوى عبر العصور والأحقاب، وهي قطاعات عاثَ فيها "بنكيران" فسادا، وملأها ظلما وحيفا، وأظهر فحولته الكاذبة على أهلها، وانتشى بانتصاره الوهمي على رجالها ونسائها.. القطاع الأول، هو قطاع العدل، الذي يتحكم فيه وزير غيْر مستقل ثم الغريب في الأمر ترانا نتحدث عن استقلالية القضاء، فيما وزيره ينتمي إلى حزب، وقد كان أولى بنا أن نجعل العدل مستقلاّ عن الحزبية، قبل أن نتحدث عن استقلاليته كسلطة قضائية وجب استقلالُها عن السلطة التنفيذية؛ فكيف بالله عليك أن يكون أهل العدل هم أنفسهم عرضة للظلم، والجوْر، والشطط؟ ثم القطاع الثاني هو قطاع التربية والتعليم، وقد تأزّمت وضعيتُه، وتدنّت مناهجُه، وهوتْ إلى الحضيض نتائجُه، حتى صار مصنعا فاشلا ينتج موادَّ غير صالحة للاستعمال.. صرتَ ترى في القسم بين 50 و60 تلميذا وكأنهم في علب السردين، ومن دون استحياء تسمعهم يتحدثون عن الجودة، ناهيكم من كثرة كتب مملة، لا حياة فيها ولا رشاقة، بل المستفيد منها هم التجار، ومع ذلك يتبجّحون بمجانية التعليم، فيما هو صار "گورنة" بائسة ثم لن أحدّثك عن كثرة المواد، وإرهابية الامتحانات، وتراجُع قيمة الشهادات، فصارت أدمغة التلاميذ أكياسا تُمْلأ، لا عقولا تُشكَّل وإنسانا جديدا يُخلَق.. فالإرهابيون والظلاميون، هم نتاج هذا التعليم العقيم، الذي استحال إلى أرض عاقر، تنتج محاصيل غير صالحة، لانعدام جودة التربة، وغياب مناخ ملائم، بالإضافة إلى كثرة مشرفين غير مؤهّلين، لترشيد القطاع، وتحسين جودة المنتوج، ناهيكم كذلك من غياب الأسرة بسبب عدم إشراكها في العملية التربوية.. وأما القطاع الثالث، فهو الصحة وقد تداعت حالته الصحية، وعُومل ملائكة الرحمة فيه معاملة الأباليس، فصار الطبيب يطالب بمعالجة المرضى وهو نفسه مريض مهنيا واجتماعيا، وكأنه في معتقل في "سيبيريا" وليس في مستشفى.. فأريني قطاعا واحدا بعثت فيه سياسةُ "بنكيران" الحياة، وردّت إليه الاعتبار والكرامة والأمل.. ثم ماذا عن المجال الاقتصادي، والاقتصاد عامل حاسم سلبا وإيجابا في المجتمع؛ ترى "بنكيران" يتحدث عن الأزمة، ويخوّفنا بوضعية اليونان في البرلمان، فيما هو جمع حوله 40 وزيرا، وهو عدد لا يوجد حتى في دول غنية؛ ثم تراه يزيد في رواتب المتخمين، وكل أسبوع يقدم على تعيين، حتى صارت لديه سُنّة مؤكدة، فيما يكذب على المعطلين، أو يرفع عليهم دعوى، في وقت تناديهم فيه "داعش" وتمنحهم ما حرمهم "بنكيران" في وطن صاروا فيه غرباء؛ أليس هذا طريقا نحو الإرهاب؟ ثم ترى حاشيته تعاني من السّمنة، حتى الْتوت قرافيدُها، وتدلّت بطونُها على أفخاذها، وهو دليل على التخمة والرواتب الزائدة عن الحاجة في وقت تَلهب فيه الأسعار كل مرة، ولا اهتدى مرة إلى تخفيض أجور الدناصير الناهمة، ومنهم هو نفسه لو كان صادقا في إسلامه، وفي إيمانه، وفي وطنيته، مادام الإنسان هو ما يفعله لا ما يقوله.. دخل "أبو ذر الغفاري" على معاوية والي دمشق، وصحب معه رهطا من ذوي الخصاصة، من الفقراء، والجائعين، وذوي الحاجات، وقال لمعاوية: "اُنظر لأحوال هؤلاء، وأحوال مَن هم بجانبك لترى الفرق.. إن زعيم القوم ووليهم، هو أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر من يشبع إذا شبعوا.."؛ ويقول المؤرخون إن "أبا ذرٍّ" كان بإمكانه إشعالُ ثورة ضد الشبعانين، ولكنه لم يفعل، لرجاحة عقله، وسعة نظره، وحرصه على استقرار الأمة وأمنها، ومع ذلك عانى الأمرّين بسبب موقفه هذا. أوليس هو القائل: "عجبتُ لمن لا يجد القوتَ في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه" أوليس هو القائل: "ما زاد عن الحاجة فهو سرقة" أوليس هذا هو أصل الداء، ومصدر البلاء، ووقود الاضطرابات؟؟