حين كان الملك الراحل الحسن الثاني يفكر في الإعداد للمسيرة الخضراء من أجل استرجاع الصحراء، وبعد أن أعطى إشارة انطلاقها نحو الأقاليم الجنوبية ثم الإعلان عن نهايتها بعد أن تأكد أنها حققت الأغراض المرسومة لها، كان في الوقت نفسه يفكر في أسوإ الاحتمالات: فشلها. ماذا سيحدث؟ وماذا سيفعل؟ وحده الملك الراحل، مبدع هذه المسيرة، كان منهمكا ومنشغلا بهذا السؤال لدرجة أنه وضع الاستقالة والانسحاب بين عينيه، إِنْ لم نقل هَيَّأَ نفسه لذلك بكل ما يتطلبه الأمر من جِدٍّ ومسؤولية. يقول الحسن الثاني في كتاب "ذاكرة ملك": "عندما عدت إلى الرباط قادما من أكادير، صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي "لقد كان من الممكن أن لا تعود إلى الرباط إلا لِلَمِّ حقائبك استعدادا للمنفى"، فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا، بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والراية المغربية في اليد الأخرى. إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة... وكما نقول عندنا في اللهجة المغربية "ما كان بقي لي وجه أقابل به الناس". رجل كان على استعداد ليضحِّيَ بعرشه في حالة ما إذا أخفق مخطط المسيرة في تحقيق الأهداف المحددة له، والذهاب للمنفى. وفي الواقع، فإن فكرة التضحية بالعرش ثم المنفى ليست غريبة على الأسرة الملكية. لم يتردد الملك الراحل السلطان محمد الخامس في التضحية بالعرش من أجل كرامة وحرية شعبه حين أغلق الاستعمار الفرنسي جميع قنوات الحوار مع الملك الشرعي على إِثْر رفض السلطان التوقيع، بعيون مغمضة، على كل ما يريده المقيم العام الفرنسي بالمغرب. وإزاء هذا الموقف الوطني الشجاع، لجأت الإدارة الاستعمارية إلى عقد جمع عام طارئ للقواد الذين باعوا دينهم بدُنْيَاهم، ودفعهم إلى التوقيع على عريضة إقالة وإبعاد السلطان. فكانت رحلة المنفى إلى كورسيكا في الطريق إلى جزيرة مدغشقر. وسيدفع العَمَى الاستعماري الإدارة الفرنسية إلى اختيار بن عرفة، أحد أقرباء العائلة الملكية، ك"سلطان" للبلاد. فجاء الرد سريعا من المقاومة بقيادة علال بن عبد الله الذي قام بعمليته الشهيرة ضد "السلطان" المزيف في ساحة مسجد أهل فاس بالمشور السعيد بالرباط حيث داهم موكب بن عرفة بسيارته قبل أن يستشهد.. نفس العَمَى سيصيب الاستعمار الإسباني حين لجأ إلى استخدام ورقة "الجماعة الصحراوية" مع وعد أعضائها بمنحهم حُكْماً ذاتيا في الصحراء وذلك لقطع الطريق على المطالب المغربية المشروعة، قبل أن يفتح قنوات اتصال مع ما سيسمّى ب"البوليساريو" والدفع بهم لمناهضة المغرب والمطالبة ب"حق تقرير المصير"، أي إنشاء دولة لهم في الأقاليم الجنوبية. لكن العَمَى الإسباني سيتعاظم أمام زحف المسيرة الخضراء، ولم تنفع مدريد في الأخير جميع المناورات والدسائس التي قامت بها، الشيء الذي دفعها إلى الرضوخ والشروع في التفاوض ثم الانسحاب من الأقاليم الجنوبية. التضحية بالعرش ثم اختيار المنفى من أجل الوطن والمواطن لا يمكن لأيٍّ كان القيام بها. كما أن هذه المسألة تبقى سلوكا وطنيا خاصا، وثقافة مغربية محضة، تمثّل ،بحق، استثناءً في العالمين العربي والإسلامي اللذين نجد فيهما زعماء يتشبثون بالكراسي حتى الموت أو الانقلاب عليهم. فكرةٌ جسّدها محمد الخامس على أرض الواقع، وراودت الحسن الثاني بعد انتهاء المسيرة الخضراء والعودة إلى قواعدها سالمة. وها هو الملك محمد السادس يحمل عرشه على متن سيارته وهو يجوب البلاد طولا وعرضا من أجل الإنماء والرخاء والازدهار للبلاد والعباد. وهو إنماء ورخاء وازدهار لا يمكن أن يتم في غياب الاستقرار والأمن والأمان. وما الزيارات الملكية للأقاليم الجنوبية إلا دليل على أنه لا يمكن لأيّ شيء أن يتم بدون تضحيات. ولعل أرقى أشكال التضحية تلك التي تلتقي فيها القيادة بالقاعدة وتنصهر معاً في بوتقة واحدة، من أجل نفس الهدف ونفس المصير. هنا سقط كل شيء في أيدي المناوئين للوحدة والسيادة المغربية، لأنهم لا يعرفون سر هذا الانصهار بين الملك والشعب على امتداد التاريخ. وهو العَمَى الذي اجتاح الانفصاليين بعد أن أصاب الإسبان وقبلهم الفرنسيين.