وفي هذا الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة، سوف أعتمد "المسيرة الخضراء" مرجعا وإطارا، لنرى فيما إذا كان مغرب المسيرة وفيا لروح و"فلسفة" هذه المسيرة الخالدة في سياسته، وفي مواقفه، وفي كل ممارساته؛ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هو الدليل على ذلك؟ لكن دعني أذكّر بأن دعاة الانفصال لم يَخْلُ منهم التاريخ أبدا.. فحتى الإسلام عرف مثل هؤلاء، وعانى منهم كثيرا، ولا أدل على ذلك "أهل الردة" مثلا.. فالإنسان غير المطّلع على حقائق التاريخ، يعتقد (وهو اعتقاد خاطئ) أن "أهل الردة" ارتدّوا عن الإسلام.. كلاّ؛ إنهم كانوا مؤمنين، ولكنهم رفضوا دفع الزكاة لبيت مال المسلمين أيام الخليفة الراشد "أبي بكر الصديق"، وأرادوا الاستقلال عن [دولة المدينة] وكان دعاة الانفصال والعصيان وراء كل ذلك، مما استدعى قتالهم فكانت "حرب الردة"، حفاظا على وحدة وتماسك الأمة، وخوفا من التشتت والتمزق وبروز كيانات مصطنعة.. دعاة الانفصال يسفّههم التاريخ، وكثيرا ما يكتوون بالنار التي أضرموها نكاية في الآخرين، حسدا وحقدا وضغينة، وصدق الشاعر: اِصبرْ على نار الحقود فصبرُك قاتِلُه ** فالنار تأكل نفسها إذا لم تجد ما تاكله وصدق القائل، بدليل ما يحدث اليوم لمن ساندوا وآووا وأنفقوا على خصوم وحدتنا الترابية، حيث بدؤوا يكتوون بما كانوا إليه يدعون من انفصال في صحرائنا المسترجعة من أوربا ومن إفريقيا وغيرهما؛ بل منهم من نسي ما عانته بلدانهم من الانفصاليين والمرتزقة المأجورين.. ها هي الجزائر اليوم تشهد دعوات انفصال في منطقة "القبايل" فوجدت من يساندها من "النورمان" في فرنسا، وهي المنطقة الفرنسية الغربية، التي عرفت دعوات انفصالية كما أسلفتُ في المقالة السابقة، على اعتبار أن "النورمان" ليسوا فرنسيين بل هم "فايْكينغ" من أحفاد "رولون: 911م"؛ لكن هل ساند المغرب يوما هؤلاء في فرنسا أو هؤلاء في الجزائر؟ الجواب: كلاّ.. فالمغرب حريص على الوحدة الترابية لكل الدول؛ فهو متشبث بروح المسيرة عملا وسلوكا؛ فهو مساند لوحدة شعب الجزائر ولسلامة ترابها، وسيدعمها تماما كما دعّمها خلال حرب التحرير، لأنه بلد "المسيرة الخضراء" و"بلد النبلاء" كما يلقّبه المؤرخون عن جدارة واستحقاق.. أليس هو مكسِّر شوكة الصليبيين ومنقذ العالم العربي في معركة "وادي المخازن"؟ ألم يُسَمَّ حيٌّ بالقدس "بحيّ المغاربة" لما أبلوه من بلاء حسن مع "صلاح الدين الأيوبي"؟ هل كان المغرب يوما بوابة نفَذ منها الاستعمار إلى إفريقيا أو إلى الوطن العربي؟ أبدا لم يحدث! وبعد كل هذه الأمجاد، أحرز لقبًا آخرَ وهو "شعب المسيرة الخضراء".. في 30 يونيو 1960، أعلن مرتزقة "كاطانغا" انفصالهم عن "الكونغو" بزعامة "تشومبي" الانفصالي، خدمة لأسياده، باعتباره عميلا ومرتزقا رخيصا.. كان المغرب آنذاك واضحا في موقفه، ومنسجما مع قرارات الأممالمتحدة التي أرسلت القبعات الزرق؛ ومعلوم أن الانفصاليين اغتالوا هناك الأمين العام للمنتظم الدولي. وفي سنة 1978 عاود الانفصاليون والمرتزقة الكرَّة ثانية في [الكونغو/ زايير]، في "كولْويزي"، بإقليم "شابا"، فكان موقف المغرب حازما وحاسما تجاه الوحدة الترابية لهذا البلد الإفريقي الصديق، حيث شارك الجيش المغربي إلى جانب مظليين فرنسيين لإعادة الأمور إلى نصابها، ومن ثمة لم يعد للانفصاليين أثر يُذكر إلى يومنا هذا.. وفي سنة 1968، عانت "نيجيريا" التي تعادينا اليوم في وحدتنا الترابية، عانت هي كذلك من الانفصاليين "البيافرا" في جنوب البلاد، بقيادة زعيم المرتزقة الانفصالي "غوون"؛ فأقام معتقلات للأبرياء، ومارس التعذيب والتجويع، مع تصفية كل من أرادوا العودة إلى الصواب؛ وهذا يشبه تماما ما يقوم به البوليساريو ورئيس الجمهورية التندوفية الوهمية في حق المحتجزين الصحراويين المغاربة.. وكان موقف المغرب واضحا ولا لبس فيه تجاه الوحدة الترابية "لنيجيريا".. والظاهر أن قادة هذا البلد الحاليين، يعانون ربما من الجهل، أو من العمى الأخلاقي، أو من مرض النسيان لكل هذه الحقائق التاريخية؛ وفي كل الحالات، لا عذر لهم في ذلك، وسوف يسجّل التاريخ هذا الموقف في سجلاته، وقد يعانون مرة أخرى من هذه المآسي "فبوكوحرام" الإرهابية ما زالت في بدايتها، وقد تتعملق مع الزمن ومن يدري! "فلا مستحيل في التاريخ" كما يقول "ماكياڤيللّي".. وأما المغرب فسيظل وفيا لروح "المسيرة الخضراء" المليئة بالدروس والعبر؛ وسيبقى في صحرائه إلى أبد الآبدين، رغم أنف الحاقدين ثم إياك أعني واسمعي يا جارة!