ارتبطت شخصية "القنصل" بذهن المغاربة كثيرا لدرجة أنها كانت دائم الحضور في أحاديثهم تحت اسم "الْقُونْصُو". كان هذا في وقت لم تكن قضايا ومشاكل الهجرة بهذه الكثافة التي نشهدها اليوم، وكان فيه "الْقُونْصُو" هو كل شيء. أكثر قيمة من السفير ومن الوزير. كانت كلمة "الْقُونْصُو" لا تُرَدُّ ولا تنزل إلى الأرض لا يُمَاثِلُهُ في هذا الدور سوى "القايد" الذي كان يصُول ويجُول في جهة بكاملها بأوامره وتصرّفاته التي كانت أبعد عن الصواب وأقرب إلى الشطط. وكان بمقدور "الْقُونْصُو" التدخّل لدى الدولة الأجنبية المُعْتَمَدِ لديها من أجل حلّ أعقد وأخطر المشاكل. باختصار، كان الرجل موظفا دبلوماسيا فوق العادة ويتمتع بِهِيبَة غير عادية. كان "الْقُونْصُو" يمثّل جهازا اسمه "وزارة بَرَّا" أو الوزارة البَرَّانِيَة قبل أن يتغيّر الاسم إلى وزارة الخارجية. عفا الزمن عن هذا "القونصو" كما عفا عن هندامه وتسييره التقليدي. نحن أمام "قُونْصُو" جديد، بشكل وأسلوب جديد. إنه "القونصو الحداثي" المتخرّج من مركز تكوين الخارجية. يقبع في مكتبه بعد أن يغلق عليه الأبواب والنوافذ؛ يشتغل بالحاسُوب وينشغل بالكومبيوتر ويده ملتصقة بالزِّرِّ، بدون أن يشغل باله بكثرة الاجتماعات واللقاءات وما يدور فيها من لَغْوٍ وثرثرة على إيقاع كؤوس شاي أو أيّّ مشروب. الفرق الوحيد بين "قونصُو" الأمس و"قونصو" اليوم هو أن الأول كان يستمد قُوَّتَه من الهِيبَةِ التي كان يتمتع بها، في حين إن الثاني يعتمد، كلِّيَّةً، على القرارات والتعليمات الواردة عليه من الوزارة وخَلْطِها بجرعات متتالية من توابل الرُّوتين القاتل الذي تتعطّل وتضيع معه مصالح المواطنين المغاربة المهاجرين. معنى هذا أن المغرب من البلدان القليلة في العالم التي كانت بها دولة قائمة الذات؛ وكان لها سفراء وقناصلة مُعْتَمَدُون في مختلف العواصم الأجنبية التي عرفت العمل الدبلوماسي، وله تقاليد في هذا المجال لا يمكن لأحد أن يُنْكِرَها أو يتطاول عليها. وبالرغم من هذه الثقافة والمرجعية إلاّ أن سلوك وعمل عدد غير قليل من القناصلة كان في حاجة إلى الكثير من توابل الكفاءة والمسؤولية والتّفاني التي يتحدث عنها الوزير مزوار لدرجة أن اسم القنصل أصبح مرتبطا بكل ما هو سيِّئ، وأصبح مضرب الأمثال: "آشْ غَاتْكُون؟ أنت هو القونصو؟" كأنّ المسؤول عن الخارجية لم يكن يعرف أو لم يتناهَ إلى علمه القُصُور في الأداء القنصلي الذي ظل يتحدث عنه الرائح والغادي. وإذا كان هذا صحيحا، فمعناه أن هذا المسؤول يغلق عليه مكتبه كما يغلق هاتفه الأخضر قبل الأحمر. والمأساة حين يكون خط الهاتف الأخضر يَرِنُّ ولا من يستمع فبالأحرى أن يُجِيب. وتكبر المأساة حين يكون هذا الخط مُعَطَّلاً. أما تجاربنا مع هواتف الوزراء والوزارات فهي محنة حقيقية: يجيبك أحد الموظفين بأن المعني في اجتماع مع توصية أن تترك هاتفك الشخصي للاتصال بك بعد انفضاض الاجتماع. وتظل تنتظر اتصال السيد المسؤول إلى يوم الدين. وفي تجربة أخرى تُوصِيك الكاتبة بالانتظار لأنها سَتُحَوِّلُك إلى المكتب المعني. وتظل تنتظر إلى أن ينقطع الخط ويموت من يموت. وحين تُعاود الاتصال بها وبغيرها تجد، فجأة، كل الخطوط مُغْلَقَة في وجهك. الوزير يُوصِي القناصلة الجدد بأن "الأخلاق خط أحمر". لكن هل يعلم السيد الوزير المحترم أن عدم الرد على الهاتف الذي يرن أو إغلاقه بالمرّة عمل غير أخلاقي؟الوزير يُبَشِّرُ مغاربة الداخل ومغاربة الخارج على الخصوص باستحداث و"إطلاق خط أخضر". لكن ما جدوى هذا الخط إنْ لم يتم استئصال سلوك وثقافة اللامبالاة واللاَّمسؤولية في التعامل مع المواطنين الذين يستغيثِون بهذا الخط على أمل أن تصل شكاياتهم وشكواهم إلى أُذْنٍ مُنْصِتَة؟ كما تحدث الوزير عن قُرْبِ "إطلاق خدمات القُرْبِ" التي تسمح بالولوج إلى الخدمات الإدارية ببلدان الإقامة. لكن المواطن يريد أن تكون هذه الخدمات فعلا قريبة منه وإليه. الوزير لم ينس أن يُلِحَّ على القناصلة بضرورة أن تبقى مكاتبهم مفتوحة، والمواطن يعرف أنّ المسؤول لا يشتغل إلاّ وراء أبواب مُوصَدَة، ثم إن مكتب المسؤول يتوفر على أكثر من باب، فأيّ باب منها يجب أن يظل مفتوحا؟ كل هذه الوصايا جميلة. لكن الأجمل هو أن تجد من يُنَزِّلُها إلى الأرض ويتجاوب ويتفاعل معك، وإلاّ فلا معنى لكل هذه الخدمات والخطوط الحمراء والخضراء المُبَشَّرِ بها.