قد أُتَّهَم بالوقاحة في ما أعتزم قوله في هذه المقالة، ولكن على أية حال، فهي وقاحة لا ترقى إلى تلك الوقاحة التي يتعامل بموجبها بعض الناس مع قضايا هذا الشعب.. فوقاحتي ههنا هي بالتأكيد أهون من وقاحة بعض الذين يطلقون ألسنتهم بالسب، والشتم، ووصف الآخرين بأوصاف من قبيل العفاريت والتماسيح والسفهاء و[عندي كبير] وقِسْ على ذلك، مما ألفناه وشهدناه سياسة وسلوكا من هؤلاء الذين يعرفون كيف لا يكونون فضلاء، ونزهاء، وعادلين مع مواطنينا.. وبعد حين، وبكل وقاحة، سيأتون طالبين منا أن نجدد ثقتنا فيهم، وراغبين أن نصوت عليهم، بعد كل ما أذاقونا من عذاب، وبعدما قتلوا فينا كل إحساس جميل، وشعور بالأمل.. وبما أن السياسة امرأة (كما يقول أحد الزعماء) فإني سأضرب المثال بامرأة، بالراقصة "ستْريبْتيز" على وجه الدقة.. فالراقصة من هذا النوع، تقف على الخشبة أمام حشد من المشاهدين، وعلى إيقاع الموسيقى تخلع شيئا فشيئا ملابسها، وكلّما خلعت قطعة من هذه الملابس، ينكشف جمالها، ويظهر جانب من مفاتن جغرافية جسدها.. لكنّ "المرأةَ السياسة" التي نراها على المسرح السياسي ببلادنا، فكلّما خلعت بعضا من أثوابها، ظهر قبحُها، وتقزّز الناس من مظهرها، ونفر المشاهد من النظر إليها، لأنه لا شيء يغريه فيها.. هذه هي السياسة الآن في بلادنا؛ وبعد المشهد تصيح هذه السياسة قائلة: "ها نحن الآن عرايا تماما" وهي عبارة رددتها إحدى بطلات مسرحية "الجلسة المغلقة" لجان بول سارتر.. فأين يتجلى يا ترى قبحُ هذه السياسة، وهل لها على الأقل جانب إيجابي؟ الجواب: نعم؛ فما أكثر مساوئَها، وما أقل محاسنها؛ كيف ذلك؟ فجوانبها القبيحة، إن أردتَ أن تعدّدها فلن تحصيها، بدليل أن أصحابها لا يرون إلا ما في يد الشعب على هزالته؛ بحيث عصفت رياح هذه السياسة الهوجاء بكل الحقوق والمكاسب التي تحققت منذ نيل الاستقلال إلى اليوم.. سياسة تجرأت على قوت وعيش المواطنين، ولم تجرؤ ولو على النظر في ما في أيدي البرجوازيين، والانتهازيين، واللصوص، وغيرهم من ممارسي رياضة الأصابع في أموال الأمة.. ومنذ أيام، تجرّأ بنكيران على تمرير مرسومين من تحت الطاولة، لتقليص منح الأساتذة المتدربين، في وقت ننادي فيه بإصلاح أوضاع التعليم، وكان أولى به أن يعمد إلى تقليص تعويضاته، وتعويضات حكومة الأربعين، وتعويضات حشود البرلمانيين، وبقية الدناصير في بستان الأمة.. كان عليه أن يلغي مبلغ 30 مليارًا المخصص للأحزاب الغثائية في الحملة الانتخابية؛ فالحزب الذي لا يملك أموالا، لا يجوز أن يُعطى من أموال الشعب.. فثلاثون مليارًا كان من الواجب أن تُدعَّم بها صناديق وتُنفَق في أمور تساهم في الاستقرار الاجتماعي للوطن، ما دام الخبز هو الذي يكتب التاريخ.. لكن بنكيران، ينهج سياسة "أبي جعفر الدوانيقي" الذي عُرف بمحاسبته العمال، والكادحين، على الدوانيق والحيّات فلُقّب: "أبا الدوانيق".. بنكيران يشبه كذلك "يزيد الناقص"، وهو أيضا عبّاسي، وقد لُقِّب بالناقص لأنه كان دائما ينقص من تعويضات عمال وخدام الدولة: اُنظر كتاب: تاريخ الخلفاء للسيوطي.. بنكيران يطبّق وصية "ماكياڤّيللي" بالحفاظ على امتيازات كبار السياسيين، وصون أموال المترفين.. بنكيران ينهج سياسة "نابليون الثالث"، حيث كانت تنظّم الانتخابات، وتقام المؤسسات، ولكنها لا دور لها؛ فبمرسوم يفرض (نابليون III) سياسته، دون العودة إلى هذه المؤسسات الخادعة، التي لا رأي لها إطلاقا؛ وهذا ما جعل "سارتر" ينتقد هذه الفترة، ويحذر فرنسا من العودة إليها يوما.. وبالجملة، فسياسة بنكيران لخصها أبو العلاء المعري في بيت شعري مشهور: جلَوْا صارمًا وتلَوْا باطلا ** فقالوا صدقْنا فقلنا نعم وهكذا نَعِمتِ النعوم، وبيسَتِ اللَّاآت، في عهد الدعوة إلى الله... لكنْ ما هو الجانب الإيجابي في سياسة بنكيران؟ جانبها الإيجابي هو أنها فضحت عَجْزَ، وجشع، وكذب، وطمع هذه الأحزاب؛ وبيّنت أنها لا تساوي مجتمعةً جناحَ بعوضة، هي ونقاباتها وممثلوها في البرلمان.. فبنكيران لا يقيم لها وزنا، ويهزّئ برلمانييها، وينعت زعماءها بأشنع النعوت، ولا يجالس هذه النقابات، بل إنه دجَّن بعض زعماء هذه الأحزاب، وكان الطعْم هو مناصب وزارية، ودليلي على ذلك، هو قوله إنه سيستمر في سياسته ولو احتجّت الصين بأكملها، وأنا أقول له براڤُو! لقد جعلتَهم عرايا تماما، كما تعرّت أمام الملإ سياستُك برمّتها...