1968 شهدت فرنسا موجة احتجاجات اجتماعية، و التي كان من بين أحداثها الأكثر شهرة انضمام الطلاب و العمال الفرنسيين في هجمات شبه منسقة ضد نظام "تشارل ديغول" و "جورج بوميدو" و قد بلغت تلك الاحتجاجات ذروتها بالمطالبة بإسقاط النظام. ففي مقابلة صحفية نشرتها جريدة nouvel » observateur » أجراها الفيلسوف الفرنسي الشهير "جان بول سارتر" مع قائد الطلبة "دانيال كوهن بندين" قال هذا الأخير:"لقد تمت الحركة بما يتجاوز توقعاتنا في البداية و هدفنا الآن هو الإطاحة بالنظام، ولكن الأمر ليس بيدنا سواء حدث ذلك أو لم يحدث. إذا شاركنا الحزب الشيوعي و الفدرالية العامة للعمال و اتحادات وطنية أخرى أهدافنا لن تكون هناك مشكلة سيسقط النظام في مدى أسبوعين..." لقد انتهت هذه الحركة الاحتجاجية بفعل التسويات التي جرت بين النظام الفرنسي و بعض القوى السياسية و الاجتماعية التي كان الطلبة المحتجون يطمحون إلى أن تعزز صفوفهم. تضافرت عوامل ذاتية و أخرى موضوعية في مسار تبلور هذا الحدث من جهة، و رسم شكله النهائي من جهة ثانية. ما يهمنا في هذا المقال هو العوامل الموضوعية للحدث، و قد نتطرق في مقال لاحق للعوامل الذاتية. هذا الفصل وليد مقاربة تصبو إلى تجاوز التعسف المقارناتي لفاعلين كأفراد و جماعات عبر الزمان و المكان... بالنظر إلى العوامل الموضوعية التي بلورت حركة 68 بفرنسا و التي حددها بشكل مميز بيير بورديو في كتابه "الإنسان الأكاديمي" الذي يحلل فيه عوامل أزمة العالم التعليمي، و التي كانت حركة 68 تعبيرها المرئي بحسبه: "زيادة في إنتاج الخريجين، و انخفاض في قيمة الشهادة، و إنخفاض في قيمة الوظائف الجامعية، و بالتحديد الثانوية التي تضاعفت دون أن ينفتح السلك الجامعي بنسبة متكافئة بسبب البنية القديمة تماما للبنية الجامعية". هي عوامل باتت اليوم حاضرة بقوة على مستوى قطاع التعليم بالمغرب بصفة عامة، و الجامعي بصفة خاصة. من يستطيع اليوم إنكار ارتفاع أعداد خريجي الجامعات المغربية و انخفاض قيمة الشواهد التي يحصلون عليها جراء سنوات الدراسة العجاف، و عدم قدرة الجامعات على استيعاب الكم المتزايد للتلاميذ الحاصلين على شهادة الباكالوريا، مع أن نسبة التلاميذ الذين يتمكنون من متابعة دراستهم الجامعية لايتعدى 27%من مجموع التلاميذ الذين يلجون المستوى الثانوي. كلها عوامل جعلت من الجامعات المغربية أشبه بمعسكرات للثوار أو في أفضل الأحوال مشاريع ثوار و الحانقين على الدولة و النظام و المجتمع، بل و حتى على الذات إنها قنابل موقوتة. مما لا شك فيه أن المدرسة أداة للتطويع و الضبط دون إغفال دورها العلمي بالنسبة لأي نظام سياسي و اجتماعي يحتضنها. يقول "توماس برنارد" في روايته "المعلمون القدامى":"المدرسة مدرسة الدولة، تجعل من الشباب فيها مخلوقات للدولة، أي لا شيء أخر سوى خدم للدولة. عندما دخلت المدرسة دخلت الدولة، و لأن الدولة تدمر الكائنات ...أدخلتني الدولة فيها بالقوة. كما فعلت مع الآخرين و جعلتني طائعا لها. و خلقت مني إنسانا مدولنا. إنسانا مقننا و مسجلا و مروضا و حامل شهادة. و مفسدا و مكتئبا كالآخرين". غير أن السهولة النسبية التي تمارس فيها مؤسسة المدرسة وظيفتها الإيديولوجية و السياسية بالنظر إلى بنية الفضاء المدرسي و المرشحين لخوض غماره التنشئوية، سرعان ما يصبح أكثر صعوبة و تفلتا مما كان عليه، بالنظر إلى التغيير الطارئ في بنية المؤسسة و المرشحين مع مرور الزمن و التقدم على مستوى درجات السلم الدراسي، حيث يتكرس التأزم و الانفلات و يتفاقم داخل الجامعة. في الجامعة يطلع الطالب على أفكار و إيديولوجيات مختلفة عن إيديولوجيا المدرسة(التي ما هي إلا صورة لإديولوجيا النظام السياسي المتحكم في المجتمع)، بل مناقضة لها و تضرب في شرعيتها، هذا الوعي الجديد أو الفهم الجديد للواقع الذي يعيش في صراع مستمر مع اللاوعي المترسب خلال سنوات الدراسة بالمستويات السابقة يتعزز بواقع الجامعة، واقع الدراسة بالجامعة المليء بالإخفاقات و خيبات الأمل، شباب مقبل على التخرج بدون كفاءات مهارية و مكتسبات معرفية بفعل سنوات الدراسة و اللادراسة، البدايات المتأخرة للموسم الدراسي، النقص في الكوادر و الأطر الجامعية، تكدس الطلبة في فضاءات أشبه بالمسارح منها إلى فصول الدراسة، أحياء جامعية لاهي بالكم و لا بالكيف، و ألأمر كذلك بالنسبة للخزانات، محنة الطالب التي لم تزد سنتيما واحدا منذ سنوات في مقابل الإرتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية. كلها عوامل على أخرى تأبى الحصر من تجربة إلى أخرى، تجعل من الطالب و هو على أبواب التخرج كمجاز للاندماج في فضاءه الاجتماعي و المهني إلى ثائر على المجتمع و الواقع الذي لا يرى فيه مستقبله و قلاع أحلامه الرملية التي شيدها خلال سنوات الدراسة، أو بالأحرى بداية سنوات الدراسة، حينما كان يسأله المعلمون و الأساتذة ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟؟؟ ليشرع المسكين في إطلاق العنان لأحلامه الوردية الطفولية... إن كل شاب من أولائك الشباب هو أزمة فعلية أو مشروع أزمة، و كل منهم مهدور كيانا، أو شروع هدر كياني، الأيام تمر و السنين تمضي بدون أن تحمل أملا في خلاص ممكن، فقط الإحباط هو الذي يزداد استفحالا، تسد أمام الشباب فرص الزواج و الإشباع العاطفي و الجنسي... و يزداد الانزواء بعيدا عن المجتمع(الغربة في الوطن و الدار)، تحت وطأة الاكتئاب الناتج عن البطالة المديدة بعد التخرج من الجامعة، و تبخر أحلام سنوات الدراسة الواعدة: لاعمل،لازواج،لاإستقرار،لامكانة، بل مستقبل مسدود الأفاق. لذلك و في ظل مثل هاته الظروف لا يمكن عقلنة تصرفات أولائك الشباب، مما يجعلهم أقرب إلى فعل أي شيء يمكن أن يخطر على بالهم للخروج من تلك المعانات، خاصة إذا التحموا في تجمعات كبرى، حيث تتسم التجمعات البشرية أو ما أطلق عليه فرويد الجمهور النفسي ب"انحطاط النشاط العقلي، و درجة مشتطة من العاطفة، عجز عن الاعتدال، و ضبط النفس، ميل إلى تجاوز الحدود كافة في التظاهرات العاطفية، و إعطاء متنفس لهذه التظاهرات بالمبادرة إلى الفعل. هكذا صارت الجامعات المغربية أشبه بمعسكرات للثوار، بل و أشدها قوة و فعالية، من حيث الحنق على الأوضاع القائمة و رفضها إلى أعلى المستويات ممثلا في النظام السياسي القائم. هذا التوصيف قد لا يكتسي الكثير من الموضوعية و المصداقية بالنظر إلى الوصيف و السرد الكيفي، غير أن جسامة الأرقام المعضد لهذا الطرح ولو أنها لا تعكس بالفعل الواقع الحقيقي لمعضلة البطالة في صفوف حملة الشواهد الجامعية و وضعية التعليم الجامعي بالمغرب. غير أن الواقع الاحتجاجي و السياسات الاجتماعية للنظام المفاقمة للوضع اجتماعيا و سياسيا أفصح من أن تدارى. بناء على التحقيق الذي أجرته المندوبية السامية للتخطيط حول الشباب على 5000شاب و شابة، من ذوي الفترة العمرية المتراوحة بين 18و44 سنة، و الذي جاءت نتائجه مبينة للوضع الكارثي الذي يعيشه الشباب المغربي، حيث أن %54منهم يعيشون في بيوت أبائهم، و هذا ناتج عن الإكراهات الاجتماعية و الاقتصادية لهذه الفئة العمرية السائرة في طريقها إلى المأساة، ليست مأساتها وحدها، بل مأساة مجتمع بأكمله. فئة لايتوفر واحد من ثلاثة على أي مستوى دراسي، و هو ما ينعكس على نشاطها و حيويتها داخل المجتمع، حيث تشكل نسبة النشيطين فيها 56%،هؤلاء يصل معدل البطالة بينهم إلى 12% لترتفع في صفوف الحضريين إلى 17%،خصوصا حملة الشواهد الذين قدرت نسبتهم 74%برسم سنة2010. حسب التقرير نفسه يشكل العمل أولوية الأولويات بنسبة96%، و إصلاح التعليم83%، بالإضافة إلى السكن و الخدمات الصحية. و في المقابل يشكل غلاء المعيشة و البطالة المخاوف الرئيسية بالنسبة لهم. الشباب لا يؤمنون بشكل كافي بمستقبلهم، و التشاؤم يترجم عبر المحادثات و المواقف. فقدان الأمل أو في أفضل الأحوال نقصه، الذي يجتاح الشباب العاطل عن العمل و بالخصوص حملة الشواهد ينذر بانفجار اجتماعي باتت بوادره جلية، و لو أنها ليست بالشكل الزخم هنا و هناك. حركات احتجاجية يقودها شباب باحث عن الكرامة في أول فرصة عمل تلبي حاجياتهم الضرورية كبشر. بحث يجعل الواحد منهم كغيره من المقبلين على التخرج من معامل تخريج أفواج العاطلين، يؤمن أنه ليس من الكافي أن تكون " حامل لشهادة جامعية" لتجد عمل. كم لدينا اليوم من عاطل عن العمل؟ كم لدينا اليوم من باحث عن العمل غير مسجل ضمن الإحصاءات الرسمية الزائفة؟ كم سيكون لدينا غدا؟ لا يمكن التنبؤ بالكيفية التي يمكن أن يتصرف بها الشباب العاطل في ظل فقدان الأمل و انسداد أفق الحل بالنسبة لهم: المظاهرات و الاحتجاجات، محاصرة مؤسسات عمومية و اقتحامها و الاعتصام داخلها، الدخول في مواجهات عنيفة مع أجهزة الأمن...بل يتعدى الأمر إلى تجاوز المطالب الاجتماعية ضمن تلك الأشكال الاحتجاجية إلى مطالب سياسية، كما حدث مؤخرا في شوارع العاصمة الرباط، بعد القمع الشديد الذي تعرض له المعطلون من حملة الشواهد العليا، فما كان إلا أن صدح بعضهم بشعار الربيع العربي "الشعب يريد إسقاط النظام".