رشيد نيني من يسمع صلاح الدين مزوار، وزير المالية، يدافع بحماسة، خلال ندوته الصحافية، عن استدانة مليار أورو من البنوك الخارجية، يعتقد للحظة أن الرجل سيطلب منحه جائزة لقدرته على إقناع بنوك أوربية وأمريكية وآسيوية على منح المغرب أكبر قرض في تاريخه. وكم بدا الوزير فرحا وسعيدا وهو يزف إلى الصحافيين خبر اقتناع سويسرا أخيرا بإقراض المغرب بعدما قدم طلبه معززا بنسخة من «شهادة الضعف»، أو ما يسمى Investment Grade التي حصل عليها المغرب مؤخرا. فمزوار قدم نجاحه في الحصول على هذا القرض الضخم، الذي سيرهن المغرب للعشر سنوات القادمة، على شكل إنجاز عظيم يجب أن يفتخر به المغرب، لسبب بسيط في نظره، وهو أن مديونية المغرب لا تتجاوز 47 في المائة من الناتج الداخلي الخام، في مقابل 70 في المائة التي توجد في بعض البلدان. وحسب السيد الوزير، فهوامش الاقتراض لازالت متوفرة في المغرب، وهناك احتمال كبير للجوء إلى هذه الهوامش لتغطية عجز الميزانية الذي وصل إلى 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام. منظر الحكومة، وهي تلجأ إلى الاستدانة لتمويل مصاريفها ونفقاتها العمومية المرتفعة، يشبه إلى حد كبير منظر رب عائلة يعيش ضائقة مالية بسبب عدم كفاية راتبه الشهري لتغطية نفقات عاداته السيئة. وعندما يحتاج إلى المال، يذهب إلى البنك لكي يقترض المزيد. وعندما تطالبه البنوك بالضمانات، فإنه يعطيها أسماء أبنائه وعناوينهم وينصحها بمطالبتهم بتسديد ديونه في حال وفاته. هذا بالضبط ما قام به مزوار. لقد رهن الحكومتين المقبلتين بقرض كبير لكي يخرج حكومة عباس من عنق الزجاجة. فما يهم عباس وحزبه هو الوصول إلى محطة 2012 بسلام. وعوض أن يتحمل وزير المالية مسؤوليته الكاملة كوزير مسؤول عن التوازن المالي للمملكة، بدأ يتحدث كما لو كان نائبا معارضا للحكومة، وقال إن الدولة لا يمكنها الاستمرار في العيش فوق إمكانياتها المالية، وإن مراجعة شاملة لهيكلة النفقات العمومية المرتبطة بالبنايات والمقرات العمومية ستبدأ. يقول وزير المالية هذا الكلام ونحن نرى كيف يستعد بنك المغرب لإنفاق حوالي مليار سنتيم على تجديد مقر بنايته بقلب العاصمة. كما نستمع إلى كلام السيد الوزير ونرى كيف سيختلط بشعارات المضربين عن العمل في الصندوق المغربي للتقاعد احتجاجا على أوضاعهم المهنية داخل مؤسسة لا تنتظر سوى إعلان إفلاسها، والتي وافقت وزارة المالية لمسؤوليها على تشييد مقر فخم في حي الرياض لإيوائها بميزانية فاقت 16 مليار سنتيم. حوالي 450 موظفا يعيشون أوضاعا مهنية بائسة داخل هذه المؤسسة التي تدير تقاعد الملايين من المغاربة، يستغربون كيف تبني لهم إدارتهم مقرا فخما بكل هذه الملايير في حين لا توفر لهم ولو حافلة واحدة تنقذهم من جحيم النقل العمومي بالرباط وسلا. لذلك فكلام الوزير حول إعادة النظر في مشاريع بنايات المقرات العمومية لا ينسجم مع ما يحدث على أرض الواقع. ببساطة، لأن كثيرا من المؤسسات العمومية والوزارات تجد في مشاريع البناء والتشييد والإصلاح الفرصة الذهبية لإبرام الصفقات مع شركات الأهل والأحباب. كم من عمالات وقيادات وباشويات ومقرات عمومية تشبه القصور الفخمة في معمارها، وعندما تدخل إليها تكتشف أن خدماتها مثل الزفت، والمواطنون يعاملون داخلها مثل الحشرات. إن ما يجب بناؤه بشكل مستعجل ليس مقرات فخمة للدولة والحكومة، وإنما الخدمة المقدمة داخل هذه المؤسسات. ما يحتاجه المغاربة هو المعاملة اللائقة داخل المؤسسات العمومية وليس نقش السقف وطلي السواري بالرخام، فهذه تفاصيل تليق بالمتاحف وليس بمؤسسات تقدم خدمات عمومية. إذا كان وزير المالية يريد حقا أن يخفض من نفقات الدولة لكي تعيش في حدود مستواها، فعليه أن يتخذ قرارات شجاعة ويمنع الدعم عن مجموعة من القطاعات الطفيلية التي تعيش على دماء الخزينة العامة. وقبل هذا، يجب أن يسترد ال80 مليارا التي أقرضتها وزارة المالية لشركة «سينيا السعادة» لصاحبها الملياردير حفيظ العلمي، ويجبر الأثرياء، الذين يتدخلون لدى الوزير الأول لكي يتملصوا من دفع ضرائبهم التي تعد بالملايير، على تسديد هذه الضرائب، وهي اللائحة التي يتوفر عليها وزير المالية ويعرف مراكز نفوذ أصحابها جيدا. ويبدو أن أول من التقط إشارة وزير المالية حول تخفيض ميزانيات الوزارات هو بنسالم حميش، وزير الثقافة، فقد استدعى قبل أيام رئيس اتحاد كتاب المغرب المؤقت، والذي تدعمه وزارة الثقافة بمبلغ خمسة ملايين سنتيم في العام، وأخبره بأن الوزارة ستقلص قيمة هذا الدعم. السيد وزير الثقافة -الذي لا يعرف أن مستشارته، التي تورطت أخيرا في فضيحة الكنز المزعوم في آسفي إلى جانب مشعوذة، ترأس، إلى جانب وظيفتها في الوزارة، شركة للعقار مقرها في باريس- يريد أن يصفي حساباته مع هذه المنظمة، التي ظل يحلم برئاستها، بتقليص الدعم المادي الضئيل الذي يقدمه إليها سنويا. والحال أن الدعم السخي الذي يجب أن تتم مراجعته وتقنينه بالضوابط والشروط التي نصح بها المجلس الأعلى للحسابات، هو الدعم السخي الذي يقدمه مدير المركز السينمائي المغربي إلى أصدقائه المخرجين السينمائيين. فالميزانيات الموضوعة رهن إشارة نور الدين الصايل -لتنظيم مهرجاناته السينمائية التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ، ولتمويل سينما الخلاعة التي يفرض مواضيعها على المخرجين الدائرين في فلكه، ومنهم نور الدين الخماري الذي رفضت ممثلة المشاركة في تصوير فيلمه الأخير «زيرو» لتضمنه لقطة جنسية خليعة- تعد بالملايير. وليس هناك مخرج واحد استفاد من أموال الدعم تمت محاسبته من طرف المركز السينمائي، بل إن كثيرا من المخرجين الذين استفادوا من ملايين الدعم تحولوا إلى أثرياء بفضل هذه الأموال، وانتهوا إلى تصوير أفلام سخيفة ومثيرة للتقزز قاطعها الجمهور. حكاية الدعم و«الترويج» ليست جديدة، فقد كان أول من اخترعها هو وزير الثقافة السابق محمد الأشعري، عندما خصص ميزانية للفرق المسرحية سماها ميزانية «الترويج»، قبل أن يكتشف أن بعض مدراء الفرق المسرحية كانوا يتسلمون ميزانية «الترويج» لكي ينفقوها في بارات المملكة على جلسات «الروج». فكانت فكرة ميزانية «الترويج» بمثابة رصاصة الرحمة التي قتلت المسرح في المغرب، بسبب تعويل الفرق المسرحية على ميزانية الوزارة عوض الاعتماد على جيب الجمهور كما تصنع كل الفرق المسرحية في العالم. وبعد «ترويج» وزير الثقافة السابق للمسرح، وقتله، اخترعت وزيرة الثقافة ثريا جبران ميزانية للدعم و«الترويج» لفائدة الأغنية المغربية. والكارثة أن كل ميزانيات الترويج هذه تخرج من جيوب دافعي الضرائب. والحال أن الفنانين في كل بلدان العالم لا يعيشون بفضل دعم الدولة لهم، وإنما بفضل دعم الجمهور لأعمالهم. والفنان الذي لا يستطيع أن ينتج فنا يقدر على الصمود والبقاء والمنافسة، فما عليه سوى أن ينسحب ويغير مهنته. لكن للأسف، عندنا نحن في المغرب، الجميع يريد أن يعيش «على ظهر» دافعي الضرائب، وكل من فشل في المسرح أو السينما أو الغناء ولم يستطع العيش على عائدات أعماله الفنية، كما يصنع كل الفنانين في العالم، يبدأ في البكاء والشكوى مطالبا بنصيبه من الدعم وميزانيات «الترويج» المقتطعة من ميزانية الدولة. وهكذا، أصبح جل المسرحيين والسينمائيين والمغنين المغاربة يحترفون فن «كور وعطي لعور»، لأنهم يعرفون سلفا أن حكم الجمهور ليس مهما مادامت الدولة هي التي تضمن خبزهم وليس الجمهور. وهكذا انهار الذوق الفني وأصبح الفنانون شبه موظفين «يقترفون» عملا فنيا كل سنة ويقدمونه إلى وزارة الثقافة أو المركز السينمائي وينتظرون مواعيد توزيع ميزانيات الدعم و«الترويج» عليهم. إن الدعم الحقيقي الذي يجب أن تقدمه الدولة اليوم في المغرب هو دعم القراءة. وهذا يتطلب توفر وزارة الثقافة على خطة واضحة المعالم لإنقاذ القراءة في المغرب. فشعب لا يقرأ شعب محكوم عليه بالتخلف والجهل والأمية. وقبل دعم الثقافة السينمائية، يجب أولا دعم ثقافة القراءة والمكتوب، لكي تتوفر للمواطن آليات تفكيك الخطاب البصري. وإلا فإننا سننجح في خلق شعب ذي ثقافة شفهية مبنية على الاستهلاك السطحي للصور بدون استيعابها وتحليل مضامينها. وبعملية حسابية بسيطة، ندرك أن إنتاج فيلم مغربي يتطلب دعما سنويا بقيمة 400 مليون سنتيم. وهذا المبلغ وحدة كاف لطبع وترجمة مئات الآلاف من الكتب وتوزيعها مجانا على المكتبات البلدية ومكتبات المدارس والثانويات والجامعات. هذا لا يعني أن الدولة مطالبة بتوقيف الدعم عن الإنتاج السينمائي الوطني. بالعكس، فقط يجب أن يستجيب هذا الإنتاج السينمائي لمعايير الوطنية. سنكون، كدافعي ضرائب، سعداء لو كان لدينا مخرج سينمائي من عيار المخرج الفرنسي الجزائري بوشارب، مخرج فيلم «ليزانديجين» وفيلم «الخارجون عن القانون» الذي يثير الآن ضجة في فرنسا لمعالجة قضايا مرتبطة بالحق في الذاكرة والماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر. أما أن تستمر الدولة في دعم إنتاج سينمائي ينتصر لقيم مناقضة للقيم الأخلاقية والوطنية والدينية لدافعي الضرائب المغاربة، كما هو الحال مع أغلب الأفلام التي يمولها المركز السينمائي المغربي، فهذا هو التبذير بعينه.