خلال الأيام العشرة الأواخر من رمضان، سمعنا تصريحات وفتاوى تفيد بأن أصحابها «ترمضنو» بما فيه الكفاية. وعوض أن يطرح هؤلاء العلماء والسياسيون الأسئلة الحقيقية يتوارون خلف أسئلة مزيفة يدارون بها عجزهم عن مواجهة الأسئلة التي تشغل بال الرأي العام. هل تناول الدواء بدون ماء يبطل الصيام في رمضان أم لا؟ هذا هو السؤال الذي شغل بال عبد الباري الزمزمي طيلة هذا الشهر الكريم. وحسب الرجل فتناول الدواء بدون ماء لا يبطل الصيام، والدليل على ذلك أنه شخصيا يتناول الدواء نهارا بدون ماء دون أن يبطل صيامه. السؤال الذي يجب أن يجيبنا عنه النائب البرلماني عبد الباري الزمزمي هو التالي: هل يعتقد أن الراتب الشهري الذي يتقاضاه عن المقعد الذي يشغله في البرلمان حلال أم حرام، خصوصا وأن سعادة النائب المحترم لم يبرر تقاضيه لهذا الراتب ولو بسؤال واحد طيلة الولاية التشريعية، فهو يعرف أنه بحكم عدم انتمائه إلى أي فريق برلماني ليس من حقه أن يطرح أسئلة في البرلمان. لماذا، إذن، يستمر في تقاضي راتب قدره 30 ألف درهم شهريا إذا كان لا يقوم بأي مجهود يبرر حصوله على هذا الراتب السمين؟ ما حكم من يتقاضى كل هذه الأموال من جيوب دافعي الضرائب دون أن يستحقها يا سعادة المفتي؟ مُفتٍ آخر ظل يظهر في جنيرك برنامج على قناة الجزيرة خلال هذا الشهر، اسمه السفياني، حرم صيام كل من يفطر على تمر قادم من إسرائيل. طبعا، جميعنا متفقون على أن مقاطعة إسرائيل واجب ديني، لكن من أين لي أن أعرف أنا المواطن البسيط أن التمر الذي سأفطر عليه تمر قادم من إسرائيل؟ فمع كل هذه الشركات الوهمية التي تختفي وراءها شركات إنتاج التمور الإسرائيلية، يستحيل على المواطن أن يميز بين التمر الإسرائيلي وتمر طان طان. ثم من أعطى السفياني الشرعية الدينية لكي يفتي ببطلان صيام الناس وجوازه على الهواء؟ وإذا أردنا مسايرة السفياني في هذا المنطق، يمكن أن نسأله بدورنا حول حكم صيام من يشارك في برنامج تذيعه قناة كالجزيرة تملكها دولة اسمها قطر كانت لديها دائما علاقات تجارية ودبلوماسية مع إسرائيل، بل ما حكم صيام من يتم تصويره بكاميرا رقمية من إنتاج شركة عالمية رأسمالها يوجد نصفه في أيدي مستثمرين إسرائيليين. أهو جائز أم باطل يا ترى؟ السؤال الحقيقي ليس هو: هل أكل التمر الإسرائيلي يبطل الصيام أم لا، وإنما هو: هل يجوز التبرع لمؤسسة ابن وزير الخارجية التي تستدعي مجرمي الحرب الإسرائيليين بأموال دافعي الضرائب أم لا؟ وما حكم من يتبرع بأموال المغاربة على هذه المؤسسة من أجل تغطية مبيت وأكل الصهاينة على أرض المغرب؟ الإفتاء في السياسة ليس بأحسن حالا من الإفتاء في الدين. وكم كان مثيرا للدهشة أن نسمع وزير الاتصال السابق نبيل بنعبد الله ينتقد الإنتاجات التلفزيونية التي تقدمها القناتان خلال هذا الشهر، ويصفها بالضعف، علما بأنه عندما كان وصيا على قطاع الإعلام أنتجت في عهده أردأ المسلسلات والبرامج التلفزيونية الرمضانية، والتي دافع عنها بشراسة. واليوم يريد السيد نبيل أن يساير الغضب الشعبي المناهض لتبديد المال العام في إنتاج الرداءة، متناسيا أن رفيقه في الحزب خالد الناصري، وزير الاتصال، هو الوصي على قطاع الإعلام العمومي، وبالتالي فهو من يتحمل مسؤولية إنتاج كل هذه الرداءة المصورة التي تبعث على الغثيان. كما ينسى أيضا أن محمد عياد، الذي كان كاتبا عاما لوزارة الاتصال على عهده والذي يشغل الآن منصب المدير العام للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون، هو أحد أعضاء حزب التقدم والاشتراكية الذي يقوده بنعبد الله. وليس هناك برنامج أو مسلسل أو فيلم يتم تصويره أو ميزانية يتم صرفها دون أن يعطي سعادة المدير العام مباركته لها. إذن، عوض أن ينتقد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، رداءة الإنتاجات التلفزيونية الرمضانية كان عليه أن يكون منطقيا مع نفسه ومنسجما سياسيا وينتقد وزير الاتصال خالد الناصري، الوصي على القطاع، ومحمد عياد، الآمر بصرف الميزانيات لإنتاج الرداءة، واللذين يوجدان إلى جانبه في الحزب الذي تولى قيادته. واضح، إذن، أن التصريحات التي يطلقها بنعبد الله ليست سوى خراطيش فارغة هدفها إحداث فرقعة في المشهد السياسي للفت الانتباه، مثلها مثل شعار «جيل جديد من الإصلاحات» الذي يردده بشكل ببغاوي في كل مكان عثر فيه على مايكروفون. ومن يتابع الحالة المزرية التي يعيشها صحافيو جريدتي «البيان» و«بيان» اليوم»، التابعتين لحزب التقدم والاشتراكية الذي يقوده بنعبد الله، يستغرب كيف يجرؤ سعادة الأمين العام على الحديث عن جيل جديد من الإصلاحات السياسية التي سترهن مصير حوالي ثلاثين مليون مغربي، في الوقت الذي عجز فيه عن العثور على جيل جديد من الإصلاحات الإدارية لحل مشاكل حوالي ثلاثين مواطنا يشتغلون في الشركة التي تصدر جريدتي الحزب. فكل ما استطاع القيام به هو تكليف رئيس تحرير جديد بقيادة جريدة «البيان» بدأ أولى فتوحاته الإعلامية بالسطو على تقرير الخمسينية وسلخه من أجل كتابة افتتاحية بمناسبة عيد العرش، وتابع فتوحاته بإسناد مهمة كتابة عمود إلى إحدى مساعداته السابقات تخصصت في سرقة مواده من المجلات الفرنسية ونسبتها إلى نفسها. عندما نرى كيف فشل الرفيق نبيل بنعبد الله في إدارة شركة صغيرة تابعة للحزب، نخاف عندما نسمعه يتحدث عن إدارة البلاد بجيل جديد من الإصلاحات السياسية، إذ كيف لمن فشل في تدبير أمور شركة صغيرة أن ينجح في تدبير أمور وزارة بكاملها؟ وإذا كان المفتي نبيل يقول هذا الكلام من خارج الحكومة لأنه يرغب في العودة إليها قريبا، فإن المفتي عباس الفاسي «بشرنا» (ما حنا على فالو) بأن حكومة 2012 ستكون استقلالية. وأضاف، في ما يشبه تهديدا مبطنا، أنهم في حزب الاستقلال لن يرفعوا سلاح الإصلاحات الدستورية في وجه الملك، ثم حدد الوزارات التي زهد فيها ويسمح بأن يخرج فيها «البلان»، وعلى رأسها وزارة غريمه ومنافسه على قيادة حزب الاستقلال توفيق احجيرة. عندما يربط عباس الفاسي بين بقاء حزبه في حكومة 2012 وبين عدم رفعهم في حزب الاستقلال سلاح الإصلاحات الدستورية في وجه الملك، فإن الأمر يبدو أقرب إلى الابتزاز السياسي منه إلى أي شيء آخر. فعباس الفاسي يريد أن يقول لقيادة حزب الأصالة والمعاصرة، دعونا في أمكنتنا إذا أردتم أن يظل سلاح الإصلاحات الدستورية في غمده. وإذا أخذتم منا حقائبنا الوزارية، وخصوصا حقيبة الوزارة الأولى، فإننا سنضم صوتنا إلى صوت الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية اللذين «يهتهتان» بالإصلاحات الدستورية في كل مرة يشعرون فيها بأن حقائبهم الوزارية أصبحت مهددة. وهكذا نفهم الهجوم العنيف الذي شنه عمدة فاس والكاتب العام لنقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب على حزب الأصالة والمعاصرة من قصبة تادلة، والذي ذهب فيه إلى حد اتهام مخططي الحزب بمحاربة الدين وتحريض الشباب على الإفطار في رمضان والتخطيط للحزب تحت تأثير السكر والليالي الحمراء. وهذه أخطر اتهامات يوجهها عضو في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال إلى حزب منافس. واضح أن حزب الاستقلال قرر إخراج العتاد الثقيل مع بداية الدخول السياسي. ويبدو أن الاستقلاليين دشنوا دخولهم السياسي «فالحيط» عندما قرروا نقل معركتهم مجددا إلى ساحة الدين، وهي المعركة التي خسروها عندما لعبوا ورقة الخمر بفاس، رغم أنهم رأوا كيف خسرها حزب العدالة والتنمية قبلهم، مما أضعف شعبيتهم إلى الحد الذي أصبح معه مستشارو الحزب في طنجة يُعرضون عن التصويت لصالح مرشحهم و«يهدون» أصواتهم لمرشح منافس. وهي الحادثة التي فتح فيها حزب العدالة والتنمية تحقيقا داخليا سيضيفه إلى التحقيق الداخلي الآخر الذي فتحه حول شريط رشوة رئيس المجلس البلدي لميدلت المنتمي إليه (أي إلى العدالة والتنمية). وهكذا فالحزب، الذي ظل يعطي الدروس في الطهارة ونظافة الذمة، أصبح يواجه موجة ردة داخل صفوفه. لذلك، فهناك دائما خلف الأسئلة السطحية والشعارات البراقة والتصريحات الملتهبة التي يطرحها السياسيون زوايا أخرى عميقة لكنها مغيبة. وقليل من النبش في هذه الزوايا وما تخفيه من أسئلة يسعف في إخراج «حناش» كثيرة إلى السطح. والقلة القليلة في الوسط الإعلامي والسياسي أصبحت تجرؤ على مساءلة تلك «الحناش» السمينة. ببساطة، لأن «اللي عضو الحنش يخاف من الشريط».