يا سيدي لا أتذكر إلا نصائحك حين تدق أجراس المدارس .. لا أتذكر إلا شعرك حين أنام على ورق الأعشاب .. أنت المدرس و المفتش و العالم و الشاعر و العدل و الموجه و الإنسان الذي لا يتكرر في التاريخ و لا في ذاكرة الزئبق و الريحان ..كيف لا و أنت القائل : و الذل لن ترضى به نفس الفتى و الموت في عز كطعم السكر لا يقبل الضيم الكريم و ان يمت شرفا فذاك العز دون تنكر يا سيدي أنت المحبة الساحرة التي لا يعرفها إلا المجربون .. أنت مروض لغة الضاد الذي يهابه السجع و البيان و الطباق و التناص و كل فنون الأدب .. يا سيدي أنت الجسر الرقيق الذي يصل بين قلوب الناس فوق بحر الأنانية .. تتعدد الكلمات و تتنوع و مهما تفننا في صيغها و مهما حاولنا من خلال هذا الركن المتعلق بذاكرة و اد نون و ما تتناوله من شخصيات تركت بصمات ستظل خالدة في تاريخ المنطقة , فإننا و بصراحة و بكل تواضع مهما قدمنا لهؤلاء لن نفيهم حقهم و ما يستحقونه بعد التقدير و الاحترام و الإعجاب , و لكن همنا هنا أن نذكر بهم و نسلط الضوء الكاشف على جزء يسير من ما قدوه من تضحيات في السراء و الضراء خدمة للوطن و للعباد .. طبعا سي الداه سيدي محمد ولد سيدي إبراهيم لايشكل الاستثناء فهو جزء هام من هذه السلسلة المترابطة والذاكرة الوادنونية الغنية برجالاتها الشرفاء, و الذي نتناول جزء من مسار حياته عبر هذا الجسر التواصلي من ذاكرة واد نون . فهو المشمول برحمة الله سي الداه سيدي محمد ولد سيدي إبراهيم المنتسب إلى قبيلة ايديبوسات لنصار العالمة , ولد بأ طار سنة 1927 بموريتانيا , و من الطبيعي بأن يكون منبع تعليمه الأول هو حفظ القران الكريم و تعلم أصول الفقه و الدين . فكان أول اشتغاله هو تدريس القران و اللغة العربية بعد انتقاله إلى الصحراء المغربية وكان ذلك إبان الاستعمار الاسباني للمنطقة الصحراوية , و قد عمل إلى جانب القطب الجهادي و العلمي محمد الاغظف . سي الداه سيدي محمد ولد سيدي إبراهيم رحمه الله حاصل على الإجازة في علوم القران و درس الألفية و للشيخ خليل وكل ما يتعلق بأصول الفقه و السنة , حاصل كذلك على الإجازة في الشريعة من جامعة القرويين بفاس . و بهذا الكم المعرفي و العلمي و المهني تم اختياره ممثلا للمغرب في العديد من البعثات الأدبية و اللغوية و غيرها, مبعوثا إلى العديد من الدول الأوروبية و العربية نذكر منها الإمارات العربية المتحدة و فرنسا , و إلى جانب اهتمامه بمسار التدريس لم ينس المرحوم سي الداه سيدي محمد نصيبه من العمل الفاعل و الجاد في العمل الجمعوي الثقافي منه و الاجتماعي بحيث كان يشرف على العديد من الأعمال ذات الصلة بالأنشطة الثقافية من قبيل مسابقات في نظم الشعر و ترتيل و تجويد القران الكريم و كان كعادته رحمه الله هو الحكم و الموجه و الناصح لكل المتبارين عملا بالمثل القائل '' ليس المهم هو إحراز الألقاب و الكؤوس و لكن تهذيب الروح و النفوس ..'' . بعد العيون انتقل سي الداه سيدي محمد إلى مدينة طرفاية و كان من أوائل المدرسين بها , و كانت هذه المرحلة متميزة لكونه زاوج فيها بكل صدق عمله المهني و المتمثل في تلقين أبناء المنطقة العلم و المعرفة في ظل استعمار اسباني لا يرحم , إلى جانب طبعا العمل الوطني المتمثل في المقاومة و النضال من اجل استقلال البلاد و تحريره من قبضة الاستعمار سواء الفرنسي أو الاسباني , فكان مكلفا بكل ما له علاقة بالنشر و إعداد التقارير و المقالات لنشرها في الصحف الوطنية و توزيعها بين المقاومين , سعيا منه لضمان تواصل ناجع بين صفوف الوطنيين خدمة للوطن . فكان وقع هذا العمل الوطني جد ايجابي مما أدى به إلى السجن على يد الأسبان . بعد تجربة التدريس بمنطقة الساقية الحمراء وواد الذهب , انتقل المرحوم بالله سي الداه سيدي محمد إلى منطقة واد نون ليحل بها و يحط الرحال بها محملا بالعلم و المعرفة و التقوى و الموعظة الحسنة و كانت ببويزكارن أول مدرسة احتضنته و كأن حالها يقول مرحبا بالعالم الجليل .. عمل بها مدة من الزمن لينتقل بعدها إلى بوابة الصحراء كليميم و هنا طاب المقام و كان المستقر بعد ترحال طويل و مواعيد مع السفر الإرادي و لا إرادي . ظل سيدي محمد الداه يتدرج في أسلاك التعليم بخطوات ثابتة متسلحا بالكم الهائل و الكبير من المعرفة خاصة في اللغة العربية و أصول الدين و الفقه , إلى أن أصبح مفتشا لهذه المواد متنقلا للقيام بمهامه من اكادير إلى الداخلة بحيث كان يغطي كل منطقة سوس و واد نون و الصحراء . و في أداءه لمهام التفتيش كان رحمه الله صارما و لبقا في آن واحد مع المدرسين , صارما لأنه يحمل هم استقامة التعليم و إبلاغ الرسالة النبيلة ألا وهي ضمان تعليم مبني على أسس صحيحة للناشئة , و لبقا لأنه يدرك اكراهات المدرس و همومه .. كان رحمه الله ضالعا في نظم الشعر سواء باللغة العربية أو اللهجة الحسانية و له في هذا الشأن أزيد من 200 قصيدة منها ما موضوعها ديني و أخرى ما هو وطني , فكان لايترك مناسبة وطنية أو دينية تمر إلا و ساهم في إحيائها بأكثر من قصيدة . كان رحمه الله من محبي السجال في الشعر , و في جلسة أدبية تخللها صنع الشاي على الطريقة الصحراوية, تساجل ذات يوم سيدي محمد الداه ولد سيدي إبراهيم مع احد تلامذته في القران السيد حمداتي و هنا نصوغ بعض الأبيات الشعرية مما جاد به هذا السجال : حمداتي : المجد في طلب المكان الاوعر و بذاك قل حليفه في الأكثر السيد الداه سيدي محمد : و الذل لن ترضى به نفس الفتى و الموت في عز كطعم السكر حمداتي : لا يسمح المرء الكريم بعرضه حتى ينال القصد لو في المشترى فادفع تليدك في المكارم كلها ندب الشهامة للمكارم يشتري السيد الداه سيدي محمد : و اطلب خصيب العز في نيل المنى و احطط رحالك في المكان الخير وارع العهود و كن بربك واثقا واشكر له وعلى الصديق فبشر يا سيدي كنت سفينة شراعها الأمل و وقودها العمل .. كنت الشمعة التي تضيء كل دروب العالم المليئة بالهم و الحزن و الرجاء .. كنت حديقة ورود و أزهار بين أشجار الأشواك .. كنت عنوان الكرم و الشهامة و الإقدام و مقدمة الصدق و النبل .. رحمك الله وأسكنك فسيح جنانه و رضي عنك . هذا طبعا شرف لنا في ذاكرة واد نون بان نكرمك على طريقة الأبناء البررة و التلاميذ العارفين بمكارمك و ما قدمته لنا طوال حياتك , فلا يسعنا هنا إلا إن نقف وقفة المعترف بالجميل كيف لا و أنت الذي تتلمذ على يديه ثلة من خيرة اطر الأقاليم الصحراوية الذين يتقلدون الآن أعلى المراتب و الذي نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر كل من : الشيخ لرباس رئيس المجلس العلمي لمدينة العيون , الدكتور شبيهنة حمداتي ماء العينين عضو المجلس الدستوري , الدكتور محمد الشيخ بيد الله رئيس مجلس المستشارين و الأمين العام لحزب الأصالة و المعاصرة , محمد صالح التامك مدير ديوان وزير الداخلية .. و اللائحة طويلة طبعا .. كيف لا و أنت الذي بعد تقاعدك من التعليم لم تخلد إلى الراحة ولم تنزوي بنفسك مثل ما يفعل المتقاعد عادة , ولكن فضلت الانتقال إلى مجال القضاء و العدالة فكنت عدلا عادلا لأزيد من 13 سنة بمدينة العيون .. كيف لا و أنت الذي أنجب و أحسن تربية الأبناء البررة من امثال ابنك البار محمد الاغظف مدير قناة العيون الجهوية المشهود له بالكفاءة و المهنية , و محمد الإمام المترجم المحلف و عضو بارز بمجلس بلدي بفرنسا , بالإضافة إلى بناتك المصونات اللواتي سرن على هديك و منوالك المستقيم كنت حقا نعم الأب و نعم الأستاذ و نعم الشاعر و يصدق في حقك قول الشاعر الذي هو أنت : لا تصحب الذل الدني و أن ترى بل فاصحبن أخي كريم المعشر كنت و ستظل رمزا من رموز الشموخ و العلى و مفخرة العلم و الدين و الشرف و الوطنية الصادقة و نحن على دربك نسير أوفياء لعهدك .. أتمنى صادقا بان أكون قد وفقت في إبراز بأمانة هذا الجزء القليل من مسار طويل و حافل بالعطاء لحياة شيخنا الفاضل سي الداه سيدي محمد ولد سيدي إبراهيم , و أتمنى كذلك بان تحمل اسمه إحدى المنشآت الثقافية بالمدينة تكريما له . رغم وداعك و رحيلك عنا, ستظل ذاكرة موشومة في قلوبنا إلى الأبد...