[email protected] في احد مقالاتنا السابقة.."الغربة في الوطن"، توقفنا مع العلامة ابن خلدون إلى أن الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه مفهوم الدولة هو أساس أخلاقي بالدرجة الأولى، ينبني على إقامة العدالة الاجتماعية و عدم توظيف السلطة السياسية أياديها الأخطبوطية لامتصاص دماء الناس و أموالهم. فإن طفت إلى السطح مثل هذه الأمراض الخبيثة، كما يستنتج ابن خلدون، فآذن بخراب العمران و بشر الدولة بزوالها و لو بعد حين. نقول أن أساس الدولة أخلاقي، لأنها جهاز يروم صناعة الإنسان، و الانتقال به إلى طور يتجاوز فيه بعده الحيواني الصرف ليتعرف على ذاته من خلال قيم و مبادئ لا تقل أهميتها عن حاجاته المادية الأخرى. و لا شك أن الدول جميعا،عبر التاريخ، و كيفما كانت طريقة وصول حكامها إلى السلطة، سواء بالانتخاب أو البيعة أو الوراثة أو السيف و الدبابة أو المكر و الخديعة، فإن هاجس البحث عن المشروعية و إضفاء الشرعية على الحكم، يظل غاية في ذاته و يجند لها بعد السيف القلم، أو بتعبيرنا المعاصر مؤسسات الإعلام و الدعاية. لكن مشكلة الإعلام و الدعاية أنهما يعتمدان على وسيلة متسارعة في التطور و التغير، بطريقة جعلت السحر ينقلب في الكثير من المرات على الساحر. ففي وقت ليس ببعيد، كانت الدولة تصنع على عينها المعلومة، و تصنع كذلك الصورة على مقاييسها، ثم تنقلها في الوقت الذي تريد إلى جمهور احترف التلقي و الانتظار، و الآن نصحو على عالم يعرف ثورة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، ثورة المعلومات و السرعة في اقتناصها و تنقيلها إلى أكبر عدد من الجماهير. فأصبحت لغة الساسة، تلك اللغة التي يتستر أصحابها وراء الكذب و الأغاليط، مفضوحة ..و مع ذلك فهي ضرورية في نظرهم! السؤال المؤرق حقيقة، و الذي سيكون وصمة عار عل دولة تدعي العدالة و تصحيح أخطائها كالمغرب، هو كيف سنجيب أبنائنا اليوم و غدا،عندما يتساءلون : لماذا يضرب الجنود معلمينا و أساتذتنا بهذه الطريقة الوحشية؟ لماذا يجرون وراءهم و يطاردونهم كما تطارد كلاب الحراسة ذئابا متطفلة؟ و لماذا ينهالون عليهم بعصيهم و هراواتهم و أحذيتهم ؟ ...مشكلة الأطفال في وقتنا الراهن، أنه يصعب التحايل عليهم و خداعهم، و إذا ما حاولت تضليلهم ، فإنهم سرعان ما يكتشفون حيلتك و يضعونك في موقف محرج، تصبح فيه في نظرهم، في أحسن الأحوال، إنسانا كاذبا. و لهذا ستضطر لقول الحقيقة المرة، و التي على كل حال، تفرض نفسها على الجميع مهما اختلفت أعمارهم و مستوياتهم الفكرية و التحليلية...إنه الوطن الذي طالما علمكم مدرسوكم كيف تبجلونه و تقدسونه و تتغنون به و تضحون من أجله..هاهو، كما ترون، يكافئ قدوتكم..معلميكم..تلك النماذج الحية التي تتبلور منها شخصياتكم، يكافئهم بأبشع انتقام..انتقام لا يقتصر فقط على إلحاق الأذى بأجسامهم التي تقوست مع الزمن في مقاعد الدرس و التحصيل المهترئة، و لكنه مس أغلى ما يملكون و هو كرامتهم. إنه إذن خطاب مستفز للمعلمين و للمتعلمين و لغيرهم، مفاده أن هذا البلد لا يقدر و لا يريد تقدير قيمة العلم، بل يعتبره بضاعة مزجاة، و يعتبر حملته و القائمين على نشره مجرد أجراء لا يتميزون عن غيرهم من الأجراء في أمور الحياة الأخرى بشيء يذكر.. و على الدولة التي تريد أن تحافظ على مهابتها ، مثل بلدنا الحبيب، أن تساوي بين الجميع في الجلد و الرفس و تمريغ الكرامة في التراب، و إلا ستكون عدالتها منقوصة و انتقائية! ثم إن عليكم أيها المدرسون أن تتفهموا ما دمتم الأقدر على التفهم و تقدير الأمور حق قدرها..فجلدكم و إهانتكم أمام عدسات الكاميرات و أمام الملأ، هو في الأخير يصب في مصلحتكم و مصلحة بلدكم!! و لكم في بلدان جيرانكم و أشقائكم عبرة إن كنتم تعقلون! يؤسفني حقيقة أن تهين دولة، تطبل ليل نهار، بعزمها على اللحاق بالعالم المتحضر و بديمقراطيته و عدالته، أن تهين أثمن ما تملكه أي دولة و هو نخبتها. و لو وقع مثل هذا السلوك المشين في دولة حديثة تحترم نفسها و تحترم الإنسان الذي وجدت من أجل خدمته، لاستقال وزراء و لربما حلت حكومة بكاملها و لظل مثل هذا الحدث وصمة عار تلاحق المسؤولين عنه في مقرات أحزابهم و نقاباتهم و في باقي مؤسسات المجتمع المدني، دون الحديث عن التشهير الإعلامي الذي قد يمحوهم من الخريطة السياسية، و سيكون طبيعيا أن يقف مثل هؤلاء أمام القضاء للمساءلة و المحاسبة. أما نحن، فمشكلتنا أننا تطبعنا مع كل شيء دون فرز أو تمحيص، فقبلنا حتى بالفتات، و تطبعنا مع الاهانات اليومية و الموسمية، فصارت المشكلة الحقيقية، ليست في دولة تنتهك حقوق الإنسان و تدوس كرامته، و لكن في مواطنين لم يطهروا دواخلهم بعد من ذلك الفيروس الذي سنسميه ب" القابلية للاهانة" على شاكلة مصطلح " القابلية للاستعمار" الذي نحته المفكر الجزائري مالك بن نبي. هكذا و عوضا أن تندد جميع مؤسسات المجتمع سياسية كانت أو مدنية، بهذه الفضيحة و تستنكرها بشدة، بل و تنخرط في حملات قوية تعيد الاعتبار و لو معنويا لهذه الفئة الضحية، اتخذ الكثير منها مكانا قصيا يتفرج على الأحداث و يلوذ بالصمت دون أن يعلم أنه ، بهذه الطريقة ، يعد متواطئا مع الجلاد في جريمته و أن التاريخ سيسجل موقفه السلبي هذا. أيها المدرسون، يا من لا تملكون شيئا غير بضاعة العلم و كرامتكم، من حقكم أن تناضلوا و بإصرار للدفاع عن حقوقكم و مكتسباتكم، و لكن ليس من حقكم أن تتنازلوا عن كرامتكم التي أهينت. لا تدعوا حكومة يعلم الجميع كيف وصل وزراؤها إلى مقراتهم الوزارية المكيفة، و كيف استفادوا من انتخابات مزورة تزويرا نزيها! رغم تواضع كفاءاتهم و أرصدتهم النضالية إن لم نقل غيابها. لا تدعوا مثل هذه الحكومة تسخر منكم و تحاول ارشاءكم و شراء صمتكم و تنازلكم ببضع دريهمات لا تسمن و لا تغني من جوع، تضيفها إلى مرتباتكم الهزيلة و توزعها أقساطا على سنوات عجاف، كما تعود أسلافها، مثل الماء يتقطر ببطء بفعل حرارة منخفضة. إن كرامتكم فوق كل اعتبار، و الحرة لا تأكل من ثديها، و ليعلم كل رسول يحمل على عاتقه رسالة العلم و التعليم، أنه معني بالأمر، لأن كرامة هذه الفئة واحدة لا تتجزأ..إن مس(بضم الميم) بعضها مست جميعها..و لله الأرض يورثها من يشاء من عباده و هو العلي القدير.