تعد الإدارة في كل دول المعمور مرآة لتطور سلوك أفراد المجتمع، وبواسطتها يطل الإنسان على نضج نمو ذكاء الشعب الذي تربطه علاقة مباشرة بإدارته .. وهذه العلاقة هي التي تحدد قيمة المواطن في بلده، ومدى فعاليته في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .. وهكذا، فقد أصبحت الإدارة في الدول التي تقيم وزنا للمواطنين، وسيلة للمساهمة في تطور وعيهم من خلال السلوكيات التي تفرضها (هذه الإدارة)، ومنها على سبيل المثال، الثقافة الإدارية التي يجب تربية الناشئة عليها، وبذلك لا محالة يتكون اقتناع بهذه السلوكيات، لأن من شأنها تخفيف العبء الثقيل على المواطنين، سواء من حيث المدة الزمنية لقضاء مصالحهم، أومن حيث إعفائهم من كثرة المصاريف، وتعدد الوثائق من أجل انجاز وثيقة واحدة ما .. أو علاقتهم مع المسؤولين الرئيسيين، المدعوين بالدرجة الأولى إلى تحديد المسؤوليات، وإعطاء تعليمات للمرؤوسين لتسهيل العمل الإداري، من أجل ضمان الراحة للذين هم في حاجة لقضاء أغراض معينة، يحتاجونها من الإدارات الحكومية، - وقد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن يظهر أن لاحياة لمن تنادي، بالأخص عندنا في المغرب ..!- وعلى هذا الأساس، يتولد عدم الاقتناع بالسلوك الإداري، نتيجة للخروقات التي ينهجها بعض أفراد الإدارة المغربية طبعا، الذين يستغلون مناصبهم، ونفوذهم أثناء ممارستهم لمهامهم، ويتعاملون بأسلوب الزبونية التي تخلق الامتيازات بين أبناء الوطن، كإعطاء الأولوية لجنس دون آخر أو لعنصر دون غيره، وينتج عن هذا، إخضاع المغلوبين على أمرهم إلى رغبات أولائك المستغلين، فتتحول العلاقة من عمل شريف، إلى ضاغط ومضغوط عليه بواسطة وسائل وطرق مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر- الوساطة .. الزبونية .. الرشوة – أجل، الرشوة .. الزبونية .. والوساطة هي من أهم العوامل التي تفقد العمل الإداري محتواه النبيل، وتحوله إلى مجرد عمل خسيس يجلب أثارا وخيمة على المجتمع، فيصبح مجرد التفكير في الذهاب إلى إدارة ما .. من أجل قضاء غرض ما .. بمثابة كابوس يقلق راحة المواطن ويقض مضجعه، وقد يمثل له في غالب الأحيان، أنه ذاهب إلى الجحيم .. لأن طلب وثيقة إدارية من حق المواطن الحصول عليها يصبح أمرا عسيرا، بل ومملا للغاية، وهذا ما يجعل المواطن ينفر من سماع كلمة (إدارة ) ويعمل بالمثل الشائع، كم حاجة قضيناها بتركها، "في الحقيقة ما أحوجنا لثقافة التسهيل والتيسير والرحمة بالناس." ونظرا لأهمية موضوع الإصلاح الإداري بالمغرب في الوقت الراهن، وفي ظل التظاهرات والمسيرات التي نظمت مؤخرا ولا زالت تنظم بين الحين والآخر من طرف العديد من الجهات في مختلف المدن المغربية، خصيصا للمطالبة بالإصلاح، هذا الإصلاح الذي في الحقيقة ما زال يراوح مكانه، وفي أحسن الأحوال يشق طريقه بخطوات هي أقرب إلى خطوات السلحفاة، وهو ما يزال بعيدا كل البعد عن ما يتطلبه العهد الجديد لمواجهة تحديث العصر، كما أنه لم يرق بعد إلى المفهوم الجديد للسلطة، الذي أعلن عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه السامي بالدارالبيضاء في 13 اكتوبر 1999، والذي ينبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية، والحريات الفردية والجماعية وعلى صيانة الحقوق، وعلى مكاتب مفتوحة في وجه المواطنين، ولو احترمت مضامين الخطاب المشار إليه، واتبع المسؤولون بمختلف إداراتنا إشاراته، وطبقوا تعليماته، لسارت الإدارة المغربية وفق القواعد القانونية المرسومة لها، التي من شأنها أن تضمن لها الوصول إلى الهدف المنشود، الشيء الذي يساعدها على تطورها وفعاليتها على مختلف الأنشطة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية وكذا الثقافية، ورغم وجود نظام محدد من طرف المشرع، يلاحظ أنه قد تتفتق عبقرية بعض رؤساء المصالح ومدراء الإدارات، وباجتهاد لحاجة في نفوسهم، يعملون على وضع عراقيل تقف في وجه المواطنين، الشيء الذي تكثر معه رفع الشكايات والاحتجاجات - وبسبب الأمية المتفشية في المجتمع المغربي واللاوعي الجاثم على معظم المغاربة- تبقى دون جدوى، وقد تنتج عن ذلك اصطدامات، ولكن دائما كما جرت العادة يكون الجواب .. النقص في عدد الموارد البشرية، وخصاص في الآليات وغير ذلك من التبريرات الواهية، بينما الحقيقة تكمن في السياسات المعتمدة في تعيين بعض المسؤولين، الذين تفرزهم الزبونية، ويصلون إلى المناصب على ظهور الوسطاء وبفضل الدعوات إلى الولائم وسهرات المجون، قلت بعض المسؤولين، لأنه ليس الكل سيء كما قد يعتقد البعض، فمقابل ذلك، هناك رجال أحرار يتمتعون بنخوة ومروءة، رجال تنبض قلوبهم بالوطنية الحقة، تراهم يبذلون المجهودات الجبارة من أجل أداء المهمة الملقاة على عاتقهم بمهنية وبتفان، مؤمنين بما معناه : " يحشر قوم من أمتى يوم القيامة على منابر من نور، يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، نورهم تشخص منه الأبصار، لا هم بالأنبياء ولا بصديقين ولا شهداء، إنهم قوم تقضى على أيديهم حوائج الناس " ولكن جحافل أصحاب المصالح الذاتية، لاتترك لهم المناخ المواتي لأداء المهمة على أحسن وجه. وإذ أتناول اليوم هذا الموضوع .. فاني أتمنى أن أكون قد ذكرت - مادامت الذكرى تنفع المؤمنين- ببعض المشاكل التي تعاني منها الإدارة المغربية، ويكون في ذات الوقت المواطن المغلوب على أمره هو الضحية رقم واحد (1) وان ما يمكن قوله هو: أن هذه المشاكل أصبحت اليوم متعددة ومتشعبة، لكن يمكن تحديدها بصورة إجمالية في ثلاثة نقط أساسية مرتبطة ببعضها البعض .. فمن جهة، هناك التعقيد الذي تعرفه مساطر الإدارة، ومن جهة أخرى هناك بطء سيرها، وهناك كذلك الموظف الذي يفرض ابتكاراته وسيطرته، ويستعرض عضلاته فينظر إلى المواطنين نظرة دونية، كما ينظر ( بضم الباء) إلى عبيد العصر القديم، ويعتبر( الإدارة ) وكأنها ضيعة في ملكه .. يتصرف فيها كما يتصرف صاحب الدابة في حبلها .. يطلقه متى شاء ويشده متى يشاء. فبالنسبة للتعقيد الذي تعرفه الإدارة .. تنبغي الإشارة هنا إلى المساطر المتبعة والتي يمكن أن يعاب عليها، هو كثرة الوثائق المطلوبة من أجل انجاز(وثيقة واحدة) من جهة، ثم غياب التنسيق بين الجهات التي تجري أمامها هذه المساطر من جهة أخرى، وكمثال بسيط على ذلك: من أجل الحصول على بطاقة التعريف الوطنية، يلزم الطالب إحضار شهادة السكنى من المقاطعة الحضرية التابعة لها سكناه - وهذا ليس بالأمر الهين، لأن هناك سلطة مقدم الحي وبعده الموظف ومعاملاته وجبروته .. فضلا عن تقديم شهادة الولادة، و .. و.. الخ- ثم استبدال هذه الشهادة بشهادة سكنى أخرى، تسلمها الدائرة الأمنية التي يقع سكنه تحت نفوذها، - ناهيك عن ما تتطلبه هذه الوثائق من مصاريف قانونية وأخرى ما أنزل الله بها من سلطان .. ومن طلوع وهبوط وانتظار- وهكذا دواليك، ليصبح صاحب الشأن في الأخير متوفرا على بطاقة واحدة تضمن له مواطنته، وقد استبشر المغاربة خيرا عند الانطلاقة الأولى للبطاقة البيوميترية الجديدة، لما أقدمت الإدارة العامة للأمن الوطني على تغيير حجمها ومضمونها، وأشيع آنذاك بأنها قد تكون بمثابة مكتب لعدة وثائق رسمية، وقد تعفي حاملها من اللهث وراء عقد الازدياد .. شهادة الإقامة.. شهادة الحياة .. وشهادة الجنسية، ولكن للأسف الشديد لاشيء تغير في الأفق، فما زالت دار لقمان على حالها .. وما زال المواطن يجري وراء كل وثيقة على حدة، ويعيش الإرهاصات يوما بيوم، ودائما في هذا السياق، فمن أراد تغيير مهنته في ذات البطاقة، رغم أنها أصبحت بعد الحلة الجديدة لاتحمل المهنة، ففضلا عن إجراءات الحصول على شهادة السكنى من المقاطعة، يلزمه الإدلاء بشهادة إدارية خاصة بالعمل، تسلمها المقاطعة الحضرية التابع لها مقر عمله، هذا بالنسبة للعامل والقاطن في نفس المدينة أو الحي، فما بالك بظروف الذي يعمل بمدينة ويسكن بأخرى، فكم يكفيه ياترى من (سير وآجي) وهدر للوقت والمال لقضاء مثل هذا الغرض ..؟ هذا نوع من المشاكل التي يتخبط فيها المواطن المغربي باستمرار، بيد أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه، بحيث أن هذا المواطن الذي لايجد من يسانده ولا من يشفق على حاله الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لا يسر الناظرين، فقد تراكمت عليه هموم الدنيا من كل حذب وصوب، حتى أصبح يتدحرج ككرة بين الأرجل، تارة يقدفه غلاء الأسعار واكتفاء الحكومة بالتفرج من بعيد على قدرته الشرائية التي تتدهور يوما عن يوم، وأخرى، تصفعه القوانين اللاقانونية التي تفصل على هوى المالكين لزمام الأمور، وأدرج هنا - تعميما للفائدة - وهذه المرة يتمثل في نوع آخر من التعقيدات، تلعب دور البطولة فيه الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية - وقس على ذلك العديد من الإدارات الأخرى- مثلا كل من وجد نفسه في حاجة إلى استخراج نسخة مطابقة لأصل رسم يهمه من الوكالة المشار إليها، عليه أداء الواجب، علما أن الرسم أوالوثيقة المطلوبة تعود ملكيتها أساسا لصاحب الشأن، لكن بمجرد ماتقع بين أيدي موظفي الوكالة تصبح ملكا لهذه الأخيرة، ويفرض على صاحبها أداء واجبات من أجل التملي برؤيتها، ضف إلى ذلك البطء في تحرير مختلف الملفات، بحيث تعمر المساطر لسنين وسنين، ويبقى المعني بالأمر يعاني بين جدران الوكالة المذكورة من الابتزاز واختلاق العراقيل، وكلما احتج على الوتيرة أو نوع المعاملة، إلا ويواجه بالجواب الجاهز .. قلة الموظفين وكثرة الملفات - رغم أن الدكاترة وحاملي الشهادات العليا تتزحلق فوق رؤوسهم وعلى ظهورهم "هراوات" رجال لعنيكري صباح مساء أمام باب البرلمان - والجميع يرجع بطء وتيرة العمل إلى قلة الموظفين (ياللمصيبة ..!). وعلاوة على ذلك، وباستغراب شديد .. فقد جادت مؤخراعبقرية بعض فقهاء تكديس الثروات على حساب لقمة عيش المسحوقين .. الأمر هذه المرة يتعلق بسن قانون جديد يخص تجديد البطاقة الرمادية للسيارات بالمغرب، وكذا رخص السياقة التي أرادوا لها أن تكون بحجم صغير يضاهي حجم مثيلاتها بأوروبا، ولكن بفرض رسوم إضافية .. نعم، نحن مع التجديد، ومع العصرنة، ولكن لسنا مع فرض مصاريف إضافية تثقل كاهل المواطن، ووصول الجهة التي ابتكرت فكرة التجديد إلى هدفها على حساب جيوب المواطنين، الذين لاحول وقوة لهم، لأن من يقول تجديد رخصة السياقة أوالبطاقة الرمادية، يقول أوتوماتكيا أداء مبالغ مالية لإدارة الضرائب، والجدير بالإشارة، أن الطريقة الصحيحة والسليمة التي كان من واجب وزارة النقل والتجهيز اتباعها، هي عدم تحميل المواطنين الأتعاب المادية للتجديد الذي اختارته، لأن المعنيين بالأمر سبق وأدوا تلك الواجبات، ومن الظلم أن يجبروا على إعادة الأداء لغاية في نفس من يتحكمون في ذواليب الوزارة، ولكن يتضح أن الأخيرة لايهمها المغاربة في شيء، بقدر ما يهمها ما في جيوبهم. وبعد هذه الجولة السريعة والمفيدة طبعا على أهم محطات المشاكل الإدارية .. وكذا انعكاساتها على المجتمع والمواطن على حد سواء، أستطيع القول بأن المشاكل التي تعرفها الإدارة ليس من الصعب معالجتها، فالحلول من الممكن إيجادها، إلا أن الشرط الأول والأساسي لذلك، هو أن تكون هناك إرادة سياسية حازمة، يكون من أهدافها الرئيسية وضع المصلحة العليا فوق كل اعتبار، ومن تم ضرورة إيجاد تشريع جديد يواكب التطورات التي يعرفها العالم اليوم، خصوصا في إطار ما يسمى حاليا بقضية العولمة، وذلك بهدف تبسيط المساطر، وتحديد المسؤوليات بدقة، وحذف - مصطلح- الرئيس في اجتماع أو في مهمة من قاموس الإدارة، وحث الموظفين على أداء وظيفتهم التي يتقاضون عنها المقابل من أموال الشعب، وفق ما يقتضيه الضمير المهني والواجب الإنساني، بعيدا عن سلك طرق ملتوية لقضاء أغراض الناس، وكل مايرمي إلى ابتزازهم ودفعهم إلى تقديم إتاوات من أجل الحصول على حق يقره دستور البلاد. وأرى في الختام، أن أي إصلاح لا يمكنه أن يتم إلا بنمو القانون الإداري، لأن الأخير، هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه دولة الحق والقانون، وهو سر نجاح دول أصبحت في الطليعة، وفشل أخرى لم تساير الركب، وخلاصة القول، أن جميع المشاكل التي يعاني منها المغرب، سواء في مجال الإعلام .. التعليم .. الاقتصاد .. الشغل أوالعدل، هي مشاكل ناتجة عن طريقة وضع الرجل الغير مناسب على هرم المسؤولية، - وهذا يلاحظ في العديد من الإدارات المغربية - ويمكن كذلك إرجاعها أساسا إلى عامل توزيع خيرات البلاد - التي ينعم بها البعض دون الآخرين - فغياب توزيع الدخل القومي توزيعا عادلا سيظل من المعوقات الإنسانية التي يصعب على التحليل أن يتنبأ بعواقبها على استقرار البلاد.