يرى علماء علم الطبيعة أنّ الكائنات الحية الضخمة (مثل الديناصورات) انقرضتْ بسبب عدم قدرتها على التكيف مع العوامل الطبيعية المُحيطة بها ، وأنّ الكائنات التى استمرّتْ هى التى تمكّنتْ من (التكيف) مع مُجمل العوامل الطبيعة ، وأنها قاومتْ الانقراض بالتحوّل الذى أخذ عدة أشكال ، بينما الصفات الوراثية والجينية ، لم يطرأ عليها تغيرات ملحوظة ، كما شرح تشارلز دارون (1809- 1882) فى كتابه (أصل الأنواع) الصادر عام 1859. وقد تخصّص دارون فى دراسة التاريخ الطبيعى للكائنات الحية. وأسهم بأبحاثه وتجاربه فى التوصل لنظرية (الانتخاب الطبيعى) والصراع من أجل البقاء ، ولذلك درس التحول فى الكائنات الحية عن طريق الطفرات ، وظلّ يبحث لعدة سنوات فيما أطلق عليه (الحلقة المفقودة) بين القردة والإنسان ، ولذلك هاجمه الكهنوت الدينى فى عصره ولا يزال الهجوم عليه – حتى لحظتنا الحاضرة – من كل المؤسسات الكهنوتية فى الديانة العبرية (اليهودية/ المسيحية/ الإسلام) رغم أنّ الأبحاث الحديثة أكّدتْ صحة نظريته ، خاصة بعد نجاح العلماء فى الانتهاء من الخريطة الجينية للإنسان ووجدوا تشابهًا بين الإنسان والقرود بنسبة 98%. آمن دارون بتنوع الحياة ، وكتب فى كراسة ملاحظاته شكلا توضيحيًا لخطوط (السلالة) مثل جذع شجرة ينقسم إلى فروع ، ووضع عند نهاية كل فرع حرفًا يُمثل أحد الفروع . وكتب أنّ الطيور والثدييات والفقاريات والحشرات والحيوانات والنباتات كلها أفرع من جذع واحد . ثم كتب ((ولكن السماء وحدها تعرف هل يتفق هذا مع الطبيعة ؟ الحذر.. الحذر.. إياك والتسرع يا تشارلز.. كن حذرًا)) ولأنه عالم يحترم لغة العلم فقد تساءل : لماذا يمتلك الرجال حلمات أثداء رغم أنهم لا يستخدمونها ؟ ولاحظ أنّ بعض أنواع الخنافس تمتلك أجنحة مُثبتة جيدًا لا فائدة منها ولا يمكن أنْ تنفتح ، فتساءل لماذا يتم خلق شىء لا لزوم له ؟ كذلك لاحظ أنّ بعض الطيور لا تطير رغم وجود أجنحة لها مثل النعام والبطريق . وفى عام 1838كان قد كتب 75 صفحة فى دفتر الملاحظات (ج) وكتب موجهًا حديثه لنفسه ((انظر للعالم من حولك . ادرس تدرج الأشكال الوسيطة. ادرس التوزيع الجغرافى . سجّل الحفريات والتدخل الجغرافى بين الكائنات المُنقرضة ومثيلاتها من الأنواع الحية. تدبّر كل هذه الأدلة)) ثم أضاف ((البنيان يتهاوى)) وكان يقصد بذلك (بنيان التاريخ الطبيعى اللاهوتى) وأنّ هذا البنيان اللاهوتى قد تهاوى من وجهة نظر العلم القائم على الملاحظة ، وبالتالى توصل إلى أنّ الإنسان حيوان ثديى ، ومنذ تلك اللحظة لم يتراجع عن أفكاره ونتائج أبحاثه. واستعان باكتشاف (ريتشارد أوين) عالم التشريح الذى توصل إلى أنّ تركيب الهيكل العظمى للزواحف يُماثل كثيرًا تركيب الهيكل العظمى للطيور، كما هو واضح فى النعام صغير السن . وبالتالى توصّل إلى وجود قوانين طبيعية (خلاف رغبة السماء) تحكم حدوث تغاير الأنواع وتحولها. ومع التقدم العلمى (خاصة فى مجال الجينات) استفاد مربو البقر وغيرها من هذا التطور، لتعظيم الصفات الجينية المرغوبة ، من خلال انتقاء الحيوانات فى عملية التزاوج، كما نجح العلماء من انتاج أجناس جديدة ، فانتخبوا – مثلا - خيولا سريعة فى مقابل خيول جر العربات ، وأبقارًا مليئة بالدهن فى مقابل أبقار اللحم ، وكل ذلك من أجل (تحسين السلالة) وتطوير أبحاث دارون فى هذا الشأن، وكتب دارون ((إنّ النتيجة عبْر آلاف الأجيال ستكون تغير الأشكال)) وبالتالى يمكن انتاج نوعًا من نوع آخر. وكانت خلاصة أبحاثه عن (الانتخاب الطبيعى) أنّ الكون ((محكوم بقوانين وليس برغبات نُنسبها لرب معين ، وأنّ تحول الأنواع بالانتخاب الطبيعى أحد هذه القوانين)) كما أنّ نظرية دارون عن (التغير التطورى) تأكّدتْ بالأدلة البيولوجية على مدار 150 سنة. ورغم ذلك هاجمه أصحاب (الثوابت العقيدية) فى الديانة العبرية بشُعبها الثلاث ، لأنهم مع (التكيف) الثابت وضد التطور لأنهم يأخذون معلوماتهم عن التطور من الكتب الدينية التى يُقدّسونها . وللتأكيد على صحة نظرية دارون ، أجرى العالم الألمانى (جيه- إف- بلومنباخ) دراسات على عينات من جماجم لأحناس مختلفة ، فتوصّل إلى أنّ الأجناس المختلفة للبشر تشكّلتْ من أصل واحد مشترك . أما جان لامارك (1744- 1829) فقد أثبت أنّ الحيوانات تُواجه ضغوطًا مُعينة من الظروف الخارجية (أى من البيئة المحيطة بها) وأنه عندما تتغيّر الظروف الخارجية يُصبح لدى الحيوانات احتياجات جديدة ، فتستجيب لهذه الاحتياجات بزيادة استخدام أعضاء معينة أو اهمال استخدام بعض الأعضاء رغم أنّ أجيالها السابقة تعوّدتْ على استخدامها . وتوصّل إلى أنّ الاستخدام الجديد يزيد الأعضاء قوة وعدم الاستخدام يجعلها تضمر (مثل الزائدة الدودية التى كان يستخدمها الإنسان الأول ، لأنه كان يعيش على الأعشاب الجافة ، ولكن بعد أنْ أصبح يأكل الخضروات واللحوم المطبوخة إلخ لم تعد لهذه الزائدة وظيفة) وهكذا تطورتْ جينات الإنسان ، وأنّ كل هذه التغيرات قابلة للتوارث ، كما يحدث مع الزرافة التى تولد برقبة طويلة لأنها حملتْ صفات أمها الجينية ، وهكذا مع باقى الكائنات الحية. كما تمّ عمل دراسات تشريحية على القطط التى تمّ تحنيطها فى مصر القديمة ، فتبيّن أنها مُماثلة- تشريحيًا- للقطط فى العصر الحديث. 000 ما سبق عرض مختصر لما حدث مع الكائنات الحية عن العلاقة بين (التكيف والتطور) وكان هدفى من هذا العرض هو مُناقشة نظرية (التكيف) ومتى يكون التكيف إيجابيًا ؟ وعند مناقشته على المجتمعات البشرية ، فهل (التكيف) لصالح الإنسان أم العكس ؟ وبصيغة أخرى : هل التكيف (فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية) مع التقدم والتطور؟ أم أنه يعوق التقدم والتطور؟ أعتقد أنّ المعيار هو أنّ التكيف من المُمكن أنْ يكون إيجابيًا لو انعكس على سعادة الإنسان وتقدم البشرية. ومن الممكن أنْ يكون سلبيًا لو تسبّب فى تعاسة الإنسان وتخلف البشرية. فى الفرض الأول - أى الأثر الإيجابى للتكيف – تتحقق سعادة الإنسان وتقدم البشرية ، فى ظل كل ما هو نبيل وإنسانى ، بمعنى الاتفاق والالتفاف حول المبادىء الإنسانية العامة ، مثل رفض الحروب، وتشجيع الأبحاث العلمية لمقاومة الأمراض، وتشجيع التبرع لصالح مراكز الأبحاث العلمية (فى شتى المجالات) مثل استخدام الذرة لصالح البشرية وليس تدمير البشر.. إلخ . ومن بين الأهداف الإنسانية النبيلة ، والتى هى محل اتفاق بين كافة الشعوب ، تجريم أى دولة تتدخل فى شئون دولة أخرى ، سواء لفرض نمط اقتصادى مُعيّن ، أو الترويج لأفلام العنف (الأمريكية والتى يستورها مصريون ، ويُقلّدها مُنتجون ومخرجون مصريون) وبهذا نكون إزاء رفض (التكيف) الذى يُسبّب أعلى درجات الانحطاط الاجتماعى والأخلاقى . كما أنّ (التكيف) يكون مُفيدًا ومحمودًا لو أنّ كل شعب تمسّك بثقافته القومية ، مثلما هو الواقع مع عدة شعوب ، مثل الشعب اليابانى والهندى والصينى وشعوب أمريكا اللاتينية ، وشعوب أفريقيا الذين يُمارسون طقوسهم ورقصاتهم واحتفالاتهم القومية ، وبالتالى فإنّ مغزى التكيف هنا أنه رسالة ضد (الذوبان) فى أية ثقافة أجنبية غازية. وعلى سبيل المثال فإنّ الأميين المصريين رمز للتكيف الإيجابى ، حيث أنهم قاوموا الثقافة المصرية السائدة التى هاجمتْ الموروث الشعبى ، مثل خميس وأربعين المُتوفى ، وسبوع الطفل، والاحتفال بالأولياء (ظاهرة الموالد التى جمعتْ ووحّدتْ شعبنا حيث أنّ الولع بتلك الظاهرة جمع بين المسلمين والمسيحيين) ومثل احتفاظ الأميين المصريين (خاصة الفلاحين) بالتقويم المصرى ، لأنه مرتبط بالدورة الزراعية التى لا يصلح معها التقويم الهجرى . ومثل الاحتفال بشم النسيم لأنه عيد مصرى مُستمد من حضارة جدودنا المصريين القدماء إلخ . وهكذا حوّل الأميون المصريون (بالفطرة السليمة) التكيف إلى رمز إيجابى ، رمز لمقاومة أعداء الخصوصية الثقافية لشعبنا ، فلم يستجيبوا لدعوات أعداء الحضارة المصرية، ولم تُرهبهم أحاديثهم عن أنّ ما يفعله الأميون ضد الدين ، لذلك لم يهتم الأميون بتلك الأحاديث (فى كل الميديا المصرية) واستمروا فى انتاج (ثقافتهم القومية) التى تشمل الأمثال الشعبية والنكت (جمع نكتة وهى صحيحة لغويًا) والمواويل (مجهولة المؤلف) أى أنّ (التكيف) هنا هزيمة للثقافة السائدة التى (جاهدتْ) لكى تمحو وتُدمّر الخصوصية الثقافية لشعبنا. أما عن الجانب السلبى للتكيف ، فهو نقيض ما سبق ، أى التكيف مع كل ما هو ضد سعادة الإنسان وضد تقدمه ، خاصة عندما تكون نتيجة التكيف (ذوبان) الشخصية القومية فى شخصية الغزاة أيًا كانوا : فرس أو يونان أو رومان أو عرب. ورغم الحقيقة التاريخية التى أكّدها كثيرون ، من أنّ الغزاة هم الذين (ذابوا) فى ثقافتنا القومية ، لدرجة أنّ الاسكندر عندما غزا مصر، أصرّ على أنْ يكون أبوه (آمون) وليس والده البيولوجى (فيليب) وفى هذا الشأن كتب د. حسين فوزى ((عندما جاء الإسكندر مصر اعتبر نفسه وريثًا لحضارتين : المصرية واليونانية. وأخذ عنه بطليموس بن لاجوس سياسته فى معاملة المصريين معاملة شعب عريق، وحرص البطالسه بعده على هذه السياسة ، بل حاولوا أنْ يُوائموا بين عقائدهم السطحية وبين ديانة المصريين المليئة بالأسرار)) (سندباد مصرى- هيئة الكتاب المصرية- عام 97- ص122) أما موضوع تأثر الغزاة بالحضارة المصرية لدرجة أنهم (تمصّروا) فقد كتب عنه كثيرون من بينهم د. فؤاد مرسى الذى ذكر أنّ مصر (هضمتْ الغزاة) وأنّ الدولة البطلمية والدولة الرومانية فى مصر كانتا شخوصًا من أعلى ، رموزًا ، بينما ظلّ النظام المصرى كما هو، النظام الذى أقامه الفراعنة لم يتغير. حتى الديانة ظلّتْ كما هى وانتهى الأمر (مع البطالمة) أنهم تبنوا الديانة المصرية)) (أبعاد الشخصية المصرية بين الماضى والحاضر- عدة محاضرات – إعداد وتقديم ط. ر- هيئة اكتاب المصرية - عام 99- ص97) بل إنّ لفظ (آمين) الذى يختتم به المصلون (فى كل الديانات) مُشتق من (آمون) الإله الباطن وكان أيضًا يحمل معنى (استجب) وتلك الحقيقة اعترف بها أ. فتحى رضوان رغم توجهه العروبى/ الإسلامى (المصدر السابق – ص32) ولكن كارثة (التكيف) قادها المتعلمون المصريون ، من أمثلة ذلك أنّ مانيتون المؤرخ المصرى كتب تاريخ الأسرات بلغة الغزاة اليونانيين ، ولم يكتبها بلغته القومية ، وتكرّر نفس الشىء فى القرن العاشر الميلادى عندما كتب ساويس ابن المقفع تاريخ البطاركة بلغة الغزاة العرب ، بينما الشاعر الفارسى الفردوسى – فى نفس القرن - كتب الشاهنامة بلغته القومية. وهذا يُفسر سبب تماسك الشخصية الفارسية التى أخذتْ الإسلام ورفضتْ العروبة ، أى أنّ المثقفين الفرس رفضوا (التكيف) مع ثقافة الغازى ولغته ، بينما كارثة شعبنا المصرى فى المُتعلمين المحسوبين على الثقافة السائدة ، الذين (تكيّفوا) مع الغزاة ولم يُدافعوا عن الثقافة القومية ولا عن اللغة القومية ، وهو المعنى الذى صاغته د. سيدة إسماعيل كاشف التى كتبتْ ((لا ريب أنّ انتشار الغة العربية فى مصر ميزة للعرب على غيرهم من (الفاتحين) فإنّ الشعوب المُختلفة التى توالتْ على مصر قبل العرب لم تستطع القضاء على لغة المصريين . وهذه ظاهرة تستحق امعان النظر، لأنّ تنازل شعب عريق فى المدنية كالشعب المصرى عن لغته واتخاذه لغة شعب لا يوازيه فى الحضارة أمر غير عادى)) (مصر فى عصر الولاة- هيئة الكتاب المصرية- عام88 ص145) ولأنّ الأميين هم الذين تمسكوا بلغتهم القومية ورفضوا استخدام اللغة العربية لذلك ((كان انتشار اللغة العربية فى مصر أبطأ من انتشار الإسلام)) (144) مع مراعاة أنّ الإنتشار السريع للإسلام كان سببه الهروب من (الجزية) بينما الإنتشار البطيىء للغة العربية سببه أنّ الغزاة العرب فرضوا شرط تعلم اللغة العربية للتعيين فى دواوين الحكومة. وهنا كانت كارثة (المُتعلمين) المصريين الذين وافقوا على هذا الشرط ، أى أنهم (تكيّفوا) مع الغزاة العرب. ومن بين كوارث (المُتعلمين) المصريين عدم دفاعهم عن الديانة المصرية القديمة ، ولم يكتفوا بذلك وإنما باركوا اضطهاد الغزاة للديانة المصرية ، حدث ذلك عندما اعترفتْ روما بالديانة المسيحية ، واضطهدتْ المصريين المُتمسكين بدانتهم القديمة وأطلقتْ عليها (وثنية) وهو مصطلح غير علمى ، وشارك المصريون الذين دخلوا فى المسيحية فى هدم المعابد أو تحويلها إلى كنائس . وتكرّرتْ جريمة (التكيف) مع الغزاة بعد الغزو العربى ، حيث تمّ تدمير الكنائس أو تحويلها إلى مساجد (لمن يود التفاصيل- كتاب د. حسين فوزى- مصدر سابق- أكثر من صفحة) ولذلك كتب (د. فوزى) كثيرًا عن أنّ الديانتيْن المسيحية والإسلام كانتا من أسباب محاولة القضاء على القومية المصرية (أكثر من صفحة) ولكن هذه المحاولات لم تنجح والدليل على ذلك ما حدث فى ثورة برمهات/ مارس 1919فكتب د. فوزى ((سوف يُشرق فجر القومية المصرية فى سنة1919. وحركة الشعب المصرى فى ذاك العام جديرة بعناية المؤرخين ، لأنها تميّزتْ بكل صفات القومية الكاملة، فلا أثر فيها للدين أو الملة. ولا زيغ فيها نحو خلافة الباب العالى أو نحو المحتل . ومع أنها كانت حركة تحرير من الربقة الأجنبية ، فقد حرصتْ على مقومات الحضارة الغربية ولم تنبذها . والكل مصريون قبل كل شىء)) (57، 118) وتواكب مع ثورة 19 انتعاش تيار القومية المصرية وكثرة الكتابة عن الحضارة المصرية وتجسّد الفن المصرى القديم فى تمثال (نهضة مصر) للفنان محمود مختار. ومع ملاحظة أنّ تيار القومية المصرية بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر وانتعش أكثر مع لطفى السيد الذى أصدر جريدة (الجريدة) عام 1907. ولكن بعد كارثة أبيب/ يوليو1952 وصل (تكيف) المُتعلمين المصريين مع النظام الدكتاتورى الذى شطب اسم مصر، لدرجة التكلس وردّدوا مزاعم النظام عن أكذوبة (مصر العربية) مع سيطرة طغيان اللغة الدينية على الخطاب الرسمى ، وتمجيد عبد الناصر لأنه حوّل الأزهر من جامع إلى جامعة وإنشاء محطة إذاعة للقرآن يُموّلها شعبنا من حصيلة الضرائب أى أنّ المصريين (المسيحيين) أصبحوا بقدرة البكباشى يُساهمون فى ميزانية الأزهر وإذاعة القرآن ، وكل ذلك بمباركة من المُتعلمين المحسوبين على الثقافة المصرية السائدة. ومع تحفظ وهو وجود بعض الاستثناءات من (مثقفين) ينطبق عليهم هذا المُصطلح أمثال د. حسين فوزى ود. لويس عوض والأديب توفيق الحكيم وطه حسين وآخرين ، بينما الغالبية العظمى من (المُتعلمين) مشوا وراء النظام و(تكيّفوا) و(تكلّسوا) وعن التكيف كتب الفيلسوف النمساوى كارل بوبر ((يبدأ التكيف من بنية موروثة من البنية الجينية للكائن الحى ، يناظرها فى المستوى السلوكى المخزون الفطرى من أنماط السلوك المتاحة للكائن الحى.. وثمة فارق بين التغير الجينى وتغير السلوك التكيفى ، يتمثّل فى أنّ الأول يؤسس بنية جينية راسخة لا تتبدل ، أما تغير السلوك التكيفى ، فلنعترف بأنه هو الآخر يؤدى فى بعض الأحيان إلى نمط سلوكى راسخ يتم التشبث به بصورة دوجماطيقية)) ونتيجة لهذا التكيف الضار كتب ((ولنسلم بأنّ النتيجة ستكون سجنًا سنُعانى منه كثيرًا . ونحن نملك الحرية فى فحصه فحصًا نقديًا ومن ثمّ فى تحطيم قضبانه لاكتشاف الأغلال . ولكن من الواضح أنّ تحطيم المرء لقضبان سجنه ليست مسألة روتينية ، ولايمكن أنْ تتم إلاّ من خلال جهد نقدى وجهد إبداعى . وأنّ الاستسلام للتكيف هو نوع من التسليم الأعمى . وأنّ (المتكيفين) أصبحوا مقتنعين بدونيتهم (القومية) (أسطورة الإطار- ترجمة د. يمنى طريف الخولى- هيئة قصور الثقافة - عام 2015- أكثر من صفحة) وأعتقد أنّ ما كتبه هذا الفيلسوف عن (الدونية القومية) لدى (المُثقفين) ينطبق على المُتعلمين المصريين الذين (تكيّفوا) مع نظام يوليو الفاشى ، ولم يُدافعوا عن ثقافتنا القومية التى حماها الأميون ، الذين رفضوا (التكيف) مع الثقافة العربية الغازية ، لدرجة أنّ الفلاحين المصريين رفضوا القضاء الشرعى وفضلوا حل مشاكلهم بأنفسهم)) (د. عبد الحميد يونس- أبعاد الشخصية المصرية- مصدر سابق- ص112) أما الفيلسوف برتراند رسل ، فذكر أنه بدون الدفاع عن الحرية ((يكون الأفضل لنا أنْ نظل أميين)) (حكمة الغرب - ترجمة د. فؤاد زكريا - عالم المعرفة الكويتى – يوليو2009- ص24) ومن خلال هذا العرض المُختصر يتبيّن أنّ الأميين المصريين هم الذين دافعوا عن الخصوصية الثقافية لشعبنا ، ففى رسالة الماجستير للباحث أحمد أنور، عن أسباب هزيمة يونيو67، ومن خلال استمارات استطلاع الرأى أجراها على عينة من المصريين كانت النتيجة كما يلى : 3ر7% من الأميين يرون أنّ سبب الهزيمة هو ((غضب ربنا علينا)) ثم ترتفع النسبة عند ذوى التعليم المتوسط لتصل إلى 2ر48% ثم ترتفع أكثر عند ذوى التعليم العالى لتصل إلى 6ر56% وهكذا يتبيّن أنّ الأميين أكثر وعيًا من (المُتعلمين) الذين (تكيّفوا) و(تكلّسوا) مع المنظومة التعليمية والثقافية السائدة ، وردّدوا كلام المدارس والجامعات والشيوخ والميديا الناصرية عن أنّ أسباب الهزيمة ((غضب ربنا علينا)) وليست النظام الناصرى الذى تسبّب فى تلك الكارثة ، التى حاول (المُتعلمون) تبريرها والدفاع عن عبد الناصر، بأنّ سبب الهزيمة الولاياتالمتحدةالأمريكية التى ضربتْ مصر عن طريق حارسة مصالحها (إسرائيل) (د. عصمت سيف الدولة - فى كتابه " عن العروبة والإسلام " - مركز دراسات الوحدة العربية - مارس86- ص430) وهكذا ابتلى شعبنا ب (المُتعلمين) المُتكيّفين والمُتكلسين مع الفاشية الحاكمة.