عرف العالم منذ القدم مجموعة من الأزمات و الصراعات الدولية إختلفت أنواعها و أسبابها و كذا تداعياتها ، حيث لم تخلو حقبة تاريخية من آفة الحروب , التي غذتها في كثير من الأحيان الأطماع الإستعمارية لبعض الدول ، و أفرزتها أزمات دبلوماسية ، إقتصادية ، و سياسية و إيديولوجيا أحيانا أخرى . إلا أن الحرب بمفهومها التقليدي، قد عرف تطورا سريعا تزامنا مع التقدم الحاصل في الوسائل و المعدات المستخدمة في العمليات العسكرية، و لعل أبرز العوامل المساهمة في ذلك التغير، ذاك التطور الهائل الذي جاءت به الثورة التكنولوجيا و المعلوماتية و بصورة لم يسبق لها مثيل. و تعد الحرب الحضارية إحدى صور العلاقات الدولية الراهنة، و قد كان عالم المستقبليات المغربي الراحل " المهدي المنجرة " أول من صك مفهوم " الحرب الحضارية " ، حيث أصدر كتابا له بعنوان " الحرب الحضارية الأولى " على إثر الغزو الغربي على العراق في بدايات التسعينيات من القرن الماضي . كما كان المهدي المنجرة قد حذر منذ عدة سنوات من خطورة غياب الحوار الثقافي بين بلدان الشمال و الجنوب ، حيث رأى أن الحروب في المستقبل لن تكون ذات أسباب سياسية أو إقتصادية أو عسكرية أو إيديولوجية بل هي حروب حضارية تلعب القيم دورا جوهريا فيها . في سنة 1993 ، نشر الأمريكي " صامويل هنتنغتون " الذي يشتغل في حقل الدراسات المستقبلية و الإستراتيجية مقالا بعنوان " صدام الحضارات " في مجلة " الشؤون الخارجية "( و هي الناطقة بإسم وزارة الخارجية ) ، و قد خلص هنتنغتون إلى نفس النتيجة التي توصل إليها المهدي المنجرة ، و هي أن حروب المستقبل هي حروب حضارية بالأساس . ربما يرى البعض أن فكرة " صدام الحضارات" تحمل نفس المعنى لدى المهدي المنجرة و صامويل هنتنغتون ، و هذا الأمر يجانب الصواب ، ذالك أن المنجرة عندما جاء بالفكرة كأول من إنتبه للصراع الحضاري ، كان هدفه وقائي علاجي لكل أسباب الصراع بين الحضارات المختلفة ، كما أن أطروحته كانت رسالة قوية للمجتمع الدولي خاصة الدول الغربية لكي تعيد النظر في سياستها الخارجية تجاه الحضارات الأخرى من منظور الحوار لا الصراع . في حين أن هنتنغتون كانت أفكاره توجيهية وخطة إستراتيجية في خدمة صناع القرار الأمريكي ، حيث لم يكن هدفه إيجاد الحل بل كانت نظرته عنصرية و استعلائية و مستفزة . و من جهة ثانية ، تعد فرض القيم و الحضارة أحد النظريات التي جاء بها علماء الجيوبليتك أو ما يسميه البعض بالجغرافيا السياسية ، فمثلا الدولة القوية تفرض لغتها على الدول الضعيفة لكي يسهل إستعمارها فيما بعد في مجالات أخرى . فالدول الغربية خاصة الحائزة على قدرات القوة و مصادر الهيمنة ، تريد فرض قيمها و ثقافتها على الدول الأخرى المنتمية لدول العالم الثالث ، دون إحترام لخصوصياتها الثقافية و الحضارية ، حيث تتعد صور الغزو الثقافي الغربي من فرض اللغة ( كاللغة الفرنسية بالمغرب ) ، و إلى طريقة العيش كالوجبات السريعة ( كالماكدونالدز ) ، حيث ساهمت وسائل الإعلام و العولمة دورا في فرض تلك القيم بصورة أو بأخرى وهو ما يطلق عليه بالقوة الناعمة . بل أكثر من ذلك قامت بعض الدول القوية على ربط المساعدات الإقتصادية التي تقدمها للدول النامية ، بضرورة تغيير مناهج التعليم خاصة تلك المتعلقة بالجانب الديني ، و هو الأمر الذي فرضته أمريكا على بعض الدول العربية – إلا لم نقل كلها - عندما أرغمت بعضها بإعادة النظر في كلمة " الجهاد " الواردة في بعض مواد التعليم . إن الصدام الحضاري يتضح أكثر في ظاهرة "الإرهاب " الذي لم يحدد له حتى الآن أي تعريف دولي ، فرغم أن عددا من الأحداث الإرهابية شارك فيها مسيحيون و يهود و ملحدون ، نلاحظ عدم شيوع مصطلح " المسيحيون المتطرفون" أو " اليهود المتطرفون " أو " الملحدون المتطرفون " لأنه أمر مقصود ، خلافا لذلك فإننا نعيش يوميا إرهابا منظما ضد المسلمين في كل بقاع العالم و رغم ذلك فعبارة " المسلمون المتطرفون " أكثر استهلاكا إعلاميا ، إنها " حرب الكلمات " ! . و تجدر الإشارة إلى أن مصطلح " المسلمون المتطرفون " هو غربي الولادة و النشأة ، صنعه الغرب من أجل محاربة الإسلام تحت ذريعة محاربة " التطرف الإسلامي " و ذلك في إطار سياسة " صناعة عدو جديد " لأن العلاقات الدولية لا تحتمل الفراغ . إن العنف غير مرتبط أساسا بالدين أو بالحضارة أو باللغة أو العرق أو بالجغرافيا، بل إن جذوره مرتبطة أساسا بوجود أسباب تربوية و تفشي الفساد و الظلم و سياسات خارجية لبعض الدول ساهمت في تنامي الظاهرة. ومن صور صدام الحضارات حينما يقوم العرب و المسلمون كعادتهم بإدانة كل الأعمال الإرهابية – و هي أعمال مدانة -خاصة عندما يكون ضحاياه من غير المسلمين و المتهمين من الحضارة العربية الإسلامية، بل أكثر من ذلك نرفع شعارات التضامن و نطالب الغرب بأن يحكم بالبراءة في حقنا و في قضية لسنا أطرفا فيها ، و كأننا نوجه أصابع الإتهام لأنفسنا نيابة عن الغرب . و على العكس من ذلك لا نسمع و لن نسمع أبدا الدول الغربية تدين أعمال إرهابية قام بها رعاياها في حق المسلمين ، حتى إذا تمت الإدانة فيتم تغيب مصطلح " الإرهابي " و يتم إستبداله بمجرم و إلا لماذا لم نسمع " إرهابي أمريكي " أو " إرهابي مسيحي " عندما قتل ثلاثة مسلمين في أمريكا و أين هو ذلك التضامن الدولي مع هؤلاء الضحايا . أم أن كونية حقوق الإنسان تنتهك فقط إذا كان الدم من أصل عربي أو إسلامي أو من عالم ثالث !... إن هذا التعامل الغربي مع قضية الإرهاب يشبه تعامله مع قضايا عديدة من بينها كونية حقوق الإنسان . فليست هناك كونية مادام العالم مقسم إلى دول شمال و دول جنوب ، و ما دامت سياسة الكيل بالمكيالين هي المحدد و المعيار في مقاربة كل قضايا المجتمع الإنساني فلا وجود لكونية حقوق الإنسان و لا " لكونية الإرهاب " أيضا .