يرتبط ذكر الخوارج في تاريخ الاسلام السياسي بمرحلة من الفتن العصيبة سادتها الكثير من الثورات والأزمات ، وخضبتها دماء الاقتتال الطائفي الذي كان يؤججه وقود العصبية القبلية الضيقة ، والفهم المقلوب والخاطئ للأمور الدينية والدنيوية السياسية على حد سواء . والشاهد ، أن أدبيات تاريخية لتلك المرحلة تروي في هذا الشأن قصة ثلاثة من الخوارج وهم : عبد الرحمان بن ملجم ، والبرك بن عبد الله ،وعمرو بن بكر التميمي ، أنهم اجتمعوا في الحج وتعاهدوا على أن يقتل كل واحد منهم أحد قادة المسلمين . فكان من الأمر أن ابن ملجم توجه إلى الكوفة ليقتل عليا بن أبي طالب ، وتوجه البرك جهة الشام ليقتل معاوية بن أبي سفيان الذي كان متحصنا في دمشق ، أما الثالث عمرو التميمي فقصد مصر لقتل عمر بن العاص . والثابت في أحضان هذه الرواية أن عَمر بن العاص كان قد مرض في تلك الليلة التي كان قد تربص به فيها الخارجي التميمي، وأناب صاحب شرطته واسمه : ( خارجه ) ليصلي بالناس صلاة الصبح . ولم يكن التميمي يميز الأمير عن صاحب الشرطة ، فقتل هذا الأخير يظنه الأمير . ولما جيء به إلى عَمر بن العاص رضي الله عنه قال : ألم أقتلك ؟ قال : لا بل قتلت خارجه ؟ فقال التميمي : أردت عَمرا وأراد الله خارجه . فصارت القولة مثلا لمن أراد شيئا وجاءت الوقائع والأحداث بنتائج على خلاف ما كان يريده . أوردت هذه المقولة في سياق التداعيات المفتوحة التي أخرجت المقال السابق ( التقرير الهدير ، وما حواه من الكلام الجدير …) عن إطاره العام الذي أريد له بعدما طفحت على سطح النقاشات وجوه غير عادية لبعض ممثلي ورؤساء جماعات ملأهم الحنق إصرارا على الاتصال بنا لاستكناه ما اختزلته الكلمات في المقال ووريته السطور والعبارات فيه .و ما كنا نحسبهم إلا من ذوي الأيادي البيضاء النقية المتعففة التي تظهر ولا تضمر . بعبارة أخرى ، وكما في اللسان العامي ، بدا كل من فيه ( لفز إقفز ) ، وبدأت بعض الكروش المتخمة من أكل العجين تتجشأ طواعية جزءا من معالم حقيقتها وهي تتوسل إلينا أن نسحب المقال لستر (ما ستر الله ) ، حتى نُجار و نبلغ مأمن الله . هكذا إذن رأينا كيف زرع المقال بذور الرغبة في الثأر ورد الكيل لدى عدد ممن كانوا يرون أنفسهم بجلاء في مرآة المقال ، ليدخلوا معنا على خط المواجهة وليتحولوا إلى خصوم ألذاء سيضافون طبعا إلى سجلاتنا العريضة الحافلة بالعدوان والاتهامات والخصومات التي لسنا في حاجة إلى التفصيل فيها أو إطلاعكم عليها. الغريب بعد كل هذا أن ( رجالا ) كنا نخالهم من ذوي الهمم الواعدة والجرأة الباسلة في نبش جيوب الفساد وكشف بواطنه ، كما كنا طبعا نؤشر بهم على عافية مشهدنا المجتمعي المدني حينما يقاوم الولاءات و يمانع ضد كل أنواع الإلحاق والاختراق ، مشكلا بذلك حصنا حصينا للمجتمع عامة ضد التجاوزات والخروقات ، وكل أنواع الشطط ، التي تعوق تدعيم الديموقراطية ، وتحصين مكتسباتها ، كشف المقال زيف حقيقتهم ، وأظهرهم بمظهر العاجز عن ذلك ، المنتهز للمواقف من أجل الاقتناص الذاتي للمكاسب والوعود . ولعل الكثير من الناس ممن كانوا معي ( في دار غفلون ) سيكتشفون مثلي بلغة العامية كيف ( باع الطرح ) رئيس أحد المراصد التي شغلت الرأي العام قبل شهور بطلعاتها الاعلامية علينا من الصولات والجولات المثيرة في موضوع التحقيقات والمتابعات القانونية المرتبطة بالفساد و حماية المال العام التي بدت مجرد جعجعات موجهة للاستهلاك الإعلامي والسياسي لا غير ، وكيف انسلخ الرئيس هذا عن التزاماته المدنية والأخلاقية وهو يتصل بي ليطلب مني شخصيا، بتعبير لا يخلو من التهديد، سحب المقال والتراجع عن نشره لاعتبارات ذاتية لديه تكشفت لدي تمفصلاتها السياسية للتو . فضيحة انكشاف أمر هذا المناضل الحقوقي الذي بدا أنه يخوض معارك بالوكالة لخصوم لا أتفهم تصالحه معهم ، جاءت في لحظة لتؤكد حقيقة ما حام حوله من اتهامات بشأن مواقفه المتخاذلة عن فتح ملفات للفساد دون أخرى تهم أشخاصا من ذوي النفوذ المالي والاقتصادي المشهورين بمنطقته . المهم بعد كل هذا أننا اكتشفنا المواقع الصحيحة لبعض رؤساء الجماعات بعدما ( جرو لبلا على روسهم ) وهم يخيروننا في سحب المقال بين العصا والجزرة ، كما اكتشفنا ، وهذا هي الكارثة العظمى ، مناضلين( حقوقيين ) مقنعين بزيف مناهضة الفساد وحماية المال العام ، وهم يتولون الدفاع بالوكالة عن الفاسدين والمفسدين. كيفما كانت الأحوال والنتائج ، فلن تشوش علينا حسابات هؤلاء ، ولن تربكنا معادلات أولئك ، فلن يستطيعوا لنا نفعا أو ضرا ما دمنا نثق في مسارنا الاعلامي ونحرص على أن نقدم منتوجا صحفيا شهيا للقراء ، تتصدع له بالمقابل أسقف الفساد الواهية لتخر بقعة بقعة على من يلتحفها مقالا بعد المقال . أخيرا ، عندما ستسقط الأقنعة بقوة الحقائق والشواهد في حينها عن أصحابها ، ستذكرون أننا لم نكن نخلط ( لعرارم ) كما قيل في حقنا ، أو نمتطي أحصنة من القصب كما يروق للصغار ، أو أننا كنا نرجم بالغيب لعلنا نصيب ، فأيدينا ،التي تخط باستمرار ما لذ لنا وما لم يطب لغيرنا ، حينما ندخلها بلا تردد ممخضة حليبهم الاصطناعي المتضخمة ( شكوا ) يكون اليقين دوما حيا في نفوسنا أنها ( إلى ما جبدت الزبدة تجبد اللبن ) ، (ويلا ما جبدت لا زبدة لا لبن تجبد …..لعفن ). بقلم : عبد الحميد بكون - أولاد جرار