تعتبر مدينة تارودانت من الحواضر التي لها ذكر ووجود فعال في أغلب مراحل التاريخ المغربي، فهي تقع في طريق التجارة مع السودان الغربي ودول الصحراء الكبرى، وبها يقيم نواب الحكومات المركزية من الأمراء والخلفاء والقواد، مما جعلتها تكون حاضرة بلاد السوس الأقصى وعاصمتها التقليدية. ومع بزوغ فجر الدولة السعدية المدينة مرة أخرى على ساحة الأحداث، فكانت مهد الدعوة، ومنطلق الفتوحات، فنالها السعد بذلك، حيث جددت معالمها، وأسست بناياتها وحصونها، وشيدت منارات العلم والعبادة في جنباتها، فاستبدلت البلى والخرائب بحسن العمارة ونضارة الجنان والحدائق، وورد إليها مهرة العمل وأرباب الصنائع، كما نفقت فيها سوق العلم بتوارد مشاهير العلماء والقراء، وامتلأت مساجدها ومدارسها بالطلبة الآفاقيين، فأصبحت منتدى الأدباء، ومقصد النجباء، فكان ذلك كله فاتحة عهد جديد في تاريخ هذه المدينة العريقة، حيث نشطت الحركة الفكرية والعلمية والاقتصادية بانتعاش السياسة. 1- المؤسسات العلمية بمدينة تارودانت: كما هو الشأن في جميع الحواضر المغربية، فإن التعليم بمدينة تارودانت يرتبط بالمساجد والكتاتيب والزوايا والرباطات إلى جانب المدارس، فلا تكاد تخلو حارة، مهما بلغت من الصغر، من كتاب تكون جوانبه غاصة بالصغار، من كتاب تكون جوانبه غاصة بالصغار، وهم منهمكون في حفظ القرآن ومبادئ العلوم،ويبلغ التنافس أشده بين الكتاتيب والحارات في جودة الحفظ والحذق وكثرة المتخرجين الذين ختموا القرآن الكريم مرات عديدة بضبط وإتقان، ثم يرتقي المتفوقون الحاذقون في سلم التعليم بالمدارس، ويجلسون في حلقات العلماء بالمساجد الجامعة. وأشهر هذه المساجد ثلاثة: جامع القصبة ومسجد مجمع الأحباب والجامع الكبير. فجامع القصبة قد يكون أول مسجد أسس بهذه المدينة، لأن القصبة السلطانية لها ذكر في العهد المرابطي والموحدي، ومن غير المعقول أن تخلو من مسجد. وإلى اليوم يعتبر مسجد القصبة من المساجد الجامعة بالمدينة، وبه أخذ القاضي أبو زيد التمنارتي على أبي عبد الله البعقيلي الخطيب الإمام المتوفى عام 1006ه(1). ثم بلي مسجد القصبة مسجد مجمع الأحباب، الذي يدعى في الوثائق التاريخية «بالمسجد الجديد»، تلحق به مدرسة عتيقة تلاصق مقصورة النساء إلى جهة الباب الشمالي.يقول أبو زيد عبد الرحمان الحشتيمي عن شيخه التهالي: «… وكان يدرس في العلم ونفي القرآن في مدرسة القطب سيدي أحمد بن موسى (بتزرولت) مدة، ثم استقر (بردانة) في مدرسة القطب سيدي أحمد بن موسى (بتزرولت) مدة، ثم استقر بردانة في مدرسة مجمع الأحباب يدرس حينا ويتعبد حينا، حضرت مجلسه في التلخيص فوجدته من رجال العلم..(2)وقد اندثرت هذه المدرسة اليوم، وأضحت مساكن حبسية. ومن ملحقات هذا المسجد أيضا خزانة كتب عتيقة، فقد ورد ما يلي في إحدى وثائق حوالة أحباس تارودانت- «الحمد لله، وفي خزانة جامع أم الأحباب – عمره الله بوجود سيدنا المنصور بالله- من كتب سيدنا أيده الله المحبسة عليه، المصحف المبارك الكريم في سفرين، ثم دلائل الخيراث، ذكره حائزه الطلب عبد الله بن الحاج المؤذن الولتي..»(3). أما المسجد الذي كانت إليه الريادة في نشر العلوم والمعارف بهذه الربوع، فهو الجامع الأعظم الذي يرتبط تاريخ المدينة به ارتباطا وثيقا، وتعتبر الفترة التي تدرسها من أزهى الفترات التي عرفها منذ تأسيسه. 2- تعريف بتاريخ الجامع الكبير بتارودانت: يقع الجامع الكبير في الجهة الشرقية من المدينة، وإليه تنسب الحارة القريبة منه، وحوله من جميع الجهات مساكن العلماء والطلبة والبيوتات الكبرى، وكان من دخله يعجب من اتساعه واتساق زخارقه.ولا يعرف تاريخ بنائه، ولعل العمل الذي قام به محمد الشيخ السعدي هو تجديد بنائه وتوسيع جنباته..»(4)يقول الدكتور محمد حجي عن عمل محمد الشيخ السعدي: «وقد بالغ في زخرفته حتى أضحى أعلم وأفخم من جامعي المواسين وباب دكالة المستحدثين فيما بعد في مراكش..»(5). غير أن عوادي الزمان عدت إليه، فتعرض للإهمال والخراب، فرممه السلطان المولى الرشيد، وأعاد بناء ثلاث قبب الصناع في زخرفتها، حتى إنها أصبحت تضاهي ما كانت عليه أيام محمد الشيخ السعدي، وهناك لوحتان جبصيتان في الرواق اللاصق للصحن توضحان تاريخ الترميم وإعادة البناء، برسم سنة 1082ه(6) كما عرف سنة 1400ه عدة إصلاحات وترميمات شملت المقصورة الكبرى، والصومعة، والميضأة، إلا أنها طمست جميع النقوش الأثرية الموالية للصفوف الأمامية والجهات المحيطة بها… 3 مرافق المسجد: بالإضافة إلى المقصورة الكبرى، ومقصورة النساء والصحن الفصيح والصومعة البديعة والميضأة والكتاب، توجد به ساقايتان عموميتان، وإلى جهة القبلة مقبرة مشهورة عند العامة بالمحراب لأنها إلى جهته، وبها دفن العلامة أبو عبد الله التلمساني 1001ه والحاج عمر الوقاش التطواني 1149هو ومنها كان يدخل السلاطين والخلفاء ولخطباء يوم الجمعة. بالإضافة إلى ذلك فإن المسجد يتوفر على خزانة كتب عتيقة، وعلى مدرسة علمية يسكنها الطلبة الآفاقيون، إلى جانب حمام من تحبيس عبد المالك بن إسماعيل العلوي. وفي الخزانات الخاصة اليوم بتارودانت بعض النسخ من كتب هذه الخزانة(12)إلى جانب الخزانة هناك المدرسة العتيقة الملحقة بالجامع، والتي تسمى بمدرسة الجامع الكبير. وقد درس بها جهابذة العلماء، وبها كانت دراسة القراءات ومبادئ العلوم، كما يقطن بها الطلبة الآفاقيون، وفي بهوها يجلس أهل الشورى، أي مجلس كبار العلماء للنظر في النوازل، ومؤازرة القاضي فيما يعرض عليه من معضلات القضايا، وتوجد على بعد خطوات من الباب الغاربي للمسجد قرب دار آل الوقاد التلمسانيين محادية لدار القضاة التمليين المشهورين. وقد بقيت هذه المدرسة على حالها إلى سنة 1957 ميلادية، حيث بنتها جمعية علماء سوس على طراز جديد، وبها كان مقر المجلس العلمي إلى عهد قريب. وفي سنة 1972م أطلق عليها اسم «المدرسة الجشتمية» تيمنا باسم الأسرة الجشتمية العلمية الشهيرة، وأضحت تستقطب حفظة كتاب الله من المدارس العتيقة الذين يدرسون بها قبل الالتحاق بالمعهد الإسلامي.وبالجملة فالجامع الكبير بتاريخه ومرافقه ورجاله وعلومه يمثل في سوس ما يمثله جامع ابن يوسف في مراكش، وجامع القرويين في فاس، وشيوخه لا يجلس إلى حلفائهم إلا من له الأهلية من متمكني الطلبة الذين جالوا من قبل في مدارس الجبال، أو تبغوا في المدارس الحضرية… 4- الحركة العلمية بالجامع الكبير خلال القرنين العاشر والحادي عشر: تشح المصادر والوثائق فيما قبل القرن العاشر إلى درجة النضوب، فهي لا تمدنا بأخبار عن الحركة الفكرية في تارودانت وسوس عن العموم، ولا تشير إلى شيء من ذلك، إلا إذا اتصل بالأحداث السياسية من قريب أو بعيد.وقد يعجب المرء من ازدهار العلوم وفنونها في هذه الفترة رغم ما شابها من اضطراب سياسي، وقلاقل وحروب، وأوبئة ومجاعات. خاصة بعد وفاة أحمد المنصور سنة 1012، وكذلك أثناء استقرار المشوب بالحذر أثناء إمارتي الحاحيين والسملاليين. ويمكن إرجاع سبب هذه النهضة العلمية -كما سبق أن أشرت إلى ذلك في المقدمة- إلى الأهمية السياسية والاقتصادية التي أصبحت لتارودانت في هذه الفترة، واستقطاب الملوك، والخلفاء، والأمراء لكبار العلماء لعمارة المسجد الأعظم،ن وتحفيزهم بالرواتب السنية. يقول الأستاذ سيدي محمد بن عبد الله الروداني رحمه الله: «إن سوق العلم كانت نافقة بتارودانت في القرنين العاشر والحادي عشر، بحجة أن القاضي عبد الرحمان التمنارتي دخلها ذا دؤابة، فلم يبرحها لطلب العلم بغيرها حتى صار قاضيا بها ومؤلفا»(13)ويكفي المسجد الأعظم وبقية مدارس ومساجد تارودانت فخرا أن يتخرج بها السلطان الفذ أحمد المنصور الذهبي، وقد احتفظت لنا كتب التاريخ والتراجم بوثيقة بالغة الأّمية يشير فيها السلطان أحمد المنصور إلى نشأته بتارودانت، والعلوم التي حصلها، مع ذكر أساتذته وشيوخه وقد جاء فيها ما يلي:«قال أ يده الله: لما تحرك السلطان رحمه الله لسوس… رحلني معه رحمه الله، فبدأت الرسالة بالسوس على الفقيه أبي عمران موسى السوسي رحمه الله(14) وسلكتها على الفقيه أبي الربيع سليمان(15) باللوح مرتين، وكنت أقول«مختصر خليل» لنفسي، وأكتب منه لوحا. 1- تاريخ الكراسي العلمية بالجامع الكبير: تعتبر الكراسي العلمية من المناصب السامية الرفيعة التي لا تصدر إلا عن السلطان، أو من ينوب عنه، وهي مشهورة بالمغرب في الحواضر منذ أمد بعيد، غير أن أهميتها زادت على عهد السعديين، وكذا العلويين، حيث عين فيها جهاببذة العلماء، وخصصت لهم الأرزاق الوافرة مع ارتفاع مكانتهم عند الخاصة والعامة. «ومن الكراسي العلمية القديمة المعروفة بالجامع الكبير بتارودانت كرسي البخاري، وكرسي الرسالة، وكرسي المهدي مختصر خليل، ويظن أنها من إنشاء ووقف محمد المهدي الشيخ محيي هذه المدينة، ومجدد معالمها العلمية والدينية»(20) وفي الحوالة الحبسية الرودانية وثيقة تثبت اهتمام السلاطين السعديين والعلويين، بهذا المسجد كما تبين قيمة الرواتب المخصصة للتدريس والإفتاء، وتؤكد عناية المغاربة بكتب الفقه المالكي الذي عليه القضاء، وبه العمل.ونص الوثيقة كما يلي: «بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. في علم كتابه -خار الله له- أن الراتب المعروف لخطة الفتوى، ويأخذه المفتي قديما من الأوقاف الرودانية أربعة مثاقيل من الثمانية الموزونات، حسبما هو مسطور في غير ما جريدة من الجرائد، وتسجيلات الرواتب، ثم راتب مدرس «مختصر الشيخ خليل» خمس أواق بسكة المنصور مولاي أحمد رحمه الله، ومدرس «رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني» راتبه أوقيتان وتصف بالسكة المذكورة يجرى له ذلك عن كل شهر من شهور السنة، وهو أيضا من الجرائد الأحمدية التي عليها طابعه الذي تنفذ به أوامره الكريمة، فذلك كما ذكر. وقيده شاهدا به لسائله منه بجمادى الثانية من سنة خمسة وثمانين وألف(21)كما تشير هذه الوثيقة إلى استقلال خطة الإفتاء، وأن أصحابها يعينون أسوة بالقضاة والمدرسين وأهل الحسبة وبقية الوظائف السامية. ب- علماء الجامع الكبير من خلال كتاب (الفوائد الجمة) لأبي زيد التمنارتي:لقد احتفظ لنا العلامة القاضي أبو زيد عبد الرحمان التمنارتي في كتاب «الفوائد الجمة بإسناد علوم الأمة» بجملة من علماء الجامع الكبير الذين كانوا ملء السمع والبصر، وتجاوزت شهرتهم سوس إلى بقية الأصقاع، وذكر تبحرهم وتمكنهم. كما أثنى على صلاحهم وحسن معتقدهم:والذي يهمنا من هذه التراجم هو النشاط العلمي، برامج التعليم، وكتب الدراسة، وطريقة التعلم، والإفادات العلمية المتصلة بذلك. من بين هؤلاء العلماء من استقطب من خارج المغرب، مثل ابن جلال التلمساني 981ع الذي قدم مع محمد الشيخ السعدي، وقدم للإقراء بالجامع الكبير بتارودانت، وأخذ عنه فقها0ها 22 وإمام الدين الخليلي إمام مسجد الخليل، الذي حل بتارودانت، ودرس بها، وأفاد أهلها وأججاز العلماء والطلبة بمروباته.(23)وكذلك أبو عبد الله التلمساني 1001 ه الذي يقول عنه التمنارتي: «سمعت منه «صحيح البخاري» مرارا عديدة بتمامه، وقرأت عليه «رسالة أبي محمد» رضي الله عنه «مختصر الشيخ خليل» بتمامها، و»الشامل» للعلامة بهرام إلى قرب نصفه قراءة بحث وتحقيق، وحضرت ما سواهما من الكتب ك:»مختصر» ابن الحاجب و»عقائد» أبي عبد الله السنوسي و»التفسير» و»العربية» بقراءة للغير عليه.(24) كما يقول عنه في مكان آخر، ذكرا صبره ومكابدته لمشاق التعليم وأهله. «قدم للفتوى والإمامة والخطبة بالجامع الكبير، وحصل له بها حال ووجاهة عند العامة والخاصة، وهو أول ممن قرأ فيها ببراعة اللسان، ومواعظ تنبه الوسنان، ترده الفتوى من سائر آفاقها فيحسن التوقيع عليها بطريقة من الاختصار، وله مطالعة بفقه المذاهب والخلاف، مواظبا على التدريس والتفسير والحديث بالجامع المذكور، تام الاعتناء به، صابرا لجفاء طلبة أهل الجبال، متحملا لسوء أخلاق العامة»(25) وقد بقي العلم في أسرة التلمساني زمنا، ودارهم معروفة إلى الآن، بالإضافة إلى ابن الوقاد، ذكر التمنارتي شيخه عيسى السكتاني، وذكر العلوم والكتب التي تلقاها عنه بقوله عنه: «ولي قضاء الجماعة بسوس، ودرس بقاعدته تارودانت، وحضرت دروسه في الأصول والفروع وغيرها، فرأتيه مليح التحقق، صحيح التدقق، أنيق الفهم، صائب السهم، قرأت عليه «إيضاح المسالك» المونشريسي فأجاد وأفاد، بين القواعد وقرب الشوارد، ولم يظفر إذ ذاك يشرح يعتمده بحاله إلا ما تقرر لديه، من أصول مسائل المذهب وقواعده، وما ذلك إلا لقوة إدراكه واتساع تصرفه»(26) وفي هذا النص دلالة واضحة على الطريقة المتبعة في تدريس العلوم عند كبار العلماء، خاصة في الفقه وأصوله، وهي تحليل المتن، وشرح غوامضه، مع الاعتماد على الشروح التي تختلف حسب مدارك الطلبة، فإن لم تتيسر ففي تجربة وعلم ودراية المدرس كقابة. من هؤلاء العلماء كذلك القاضي سعيد بن علي بن سعيد الهوزالي، الذي ولي قضاء تارودانت نيفا وثلاثين سنة. يقول أبو زيد التمنارتي: «حضرت دروسه وانتفعت به في «مختصر الفروع» لابن الحاجب، والشيخ خليل، و»التفسير» و»العربية» و»تنقيح» القرافي… وكانت تجري في مجلسه ننكت عزيزة، وملح مفيدة، وحكايات ونوادر، قل أن توجد مع غيره، وقيدت عنه الفتاوي تقاييد، وجمعت من أجوبته كراريس حسنة..»(27) والهوزالي هذا نار على علم، قضى، وأفتى، ودرس، ومن تلاميذه عبد الله بن يعقوب جد اليعقوبيين، الذي لازم الدراسة في تارودانت سبعة عشر سنة…(28) ركان الأستاذ سيدي أحمد بن المحفوظ الأدوزي(29) -رحمه الله- عند زيارة المقبرة الكبرى في باب الخميس يمر ضريح الهوزالي ويقول: «إنه شيخ جدنا». والقاضي أبو زيد عبد الرحمان التمنارتي بدوره ورد (ردانة) وهو صغير اسن، وبها نشأ وأخذ علومه، ولما نشأ وتمت معارفه ولي بها التدريس والقضاء والفتوى، فنراه ييشير في ثنايا كتابه ««الفوائد الجمة» إلى بعض مجالسه العلمية، ويتناول القضايا المدروسة، ويبين الخلاف، ويوجه رأيه بالأدلة النقلية والعقلية ليقنع قارنه. يقول عن بعض هذه المجالس: «وفي مكان آخر يقول: «شرعت في قراءة «صحيح البخاري» في رمضان في الجامع الكبير مع أصحابنا الطلبة للإفادة والاستفادة، فوشي بي قارئه بدار الإمارة قائلا للأمير: إنما قصد فك مجلسك وتفريق الطلبة عنه. فهدى الله الأمير لما اقتضاه دينه، فقال له: ««دعه، فإنما فعل صوابا»(31) وهذا النص يفيدنا العناية الخاصة التي كان يلقاها «صحيح البخاري» في رمضان، حيث تعقد له المجالس العامة والخاصة، ويتم تدارسه وشرحه وسرده على نطاق واسع. إلى هنا نتوقف، كي لا نطيل الحديث بجرد قوائم العلماء الذين حطوا رحالهم بالجامع الكبير، والذين يعدون بالعشرات، ففيما ذكرناه كفاية(32) ج ملاحظات عامة: المواد الدراسية هي العلوم الشرعية، ثم العلوم المساعدة لفهمها، مثل علوم الآلة، والحساب، والفلك، والمنطق، وغيرها، وعلى رأس هذه العلوم يأتي علم أصول الدين، أو العقائد على مذهب أبي الحسن الأشعري، والاعتماد المطلق فيها على عقائد السنوسي.(33) ثم يأتي التفسير وعلوم القرآن، علاوة عن التجويد والرسم والضبط. يقول التمنارتي عن شيخه إبراهيم بن سليمان: «قرأت عليه «مورد الظمآن» للخراز، و»الدرر اللوامع» لابن بري، و»حرز الأماني» قراءة سرد، وبحث في بعض المواضع منها»(34) ثم «علم الحديث» وكان الاهتمام به كبيرا بحيث لا يكفي بسرد كتب الحديث، بل تشرح وتنال حقها ممن الدراية، كما يهتم بالأسانيد المرويات. وقد خص التمنارتي اللباب الثاني من كتابه للأسانيد التي حصلت له، فكانت شيئا عظيما دالا على عناية القوم البالغة بهذا العلم الشريف. يقول عن هذه الأسانيد: «وهو معظم التقييد» لأن به تتصل النسبة إلى رسول الله (ص) التي بها الشرف والسعادة.(35)ومن «كتب الحديث» الذي نجد له أسانيد إلى أصحابها: «صحيح» البخاري، و»صحيح» مسلم، و»جامع» الترمذي، و»السنن الكبرى والصغرى» للنسائي، و»سفن» ابن ماجة، و»تييسير الوصول» و»الموطأ» برواية يحيى بن يحيى الليثي، و»شرح معاني الآثار» للطحاوي، و»«مسند» أبي حنيفة، و»مسند» الإمام أحمد و»الدلائل» و»السنن للبيهقي» و»سنن» الدارقطني..(36) كما يتضح لنا من خلال هذا اهتمام العلماء بالإجازة، سواء كانت عامة أو خاصة، منظومة أو منثورة. لأنها لم تكن فقط بمثابة شهادة الاستحقاق، بل كانت وسيلة من وسائل نقل العلم الشريف. وإن رأينا من بعض علماء سوس زهدا في نيلها لانكماشهم وبعدهم عن حب الظهور. وإجازة أبي زيد التمناري العامة كانت في أحد مجالسه في رمضان 1036ه بالجامع الكبير، حيث حضرها الأعيان والطلبة وولداه أحمد ومحمد(37) إلى جانب الحديث هناك علم الفقه وأصوله، والعمدة هي المختصرات المتأخرة مثل «مختصر» ابن الحاجب، و»«مختصر» خليل بن إسحاق و»رسالة» بن أبي زيد و»إيضاح» الونشريسي.وبعض العلماء يعتمدون على أمهات كتب المذهب، ويعللون ذلك بعلل شتى، من ذلك ما ذكره التمنارتي في ترجمة شيخه العباسي الذي لازمه خمس عشرة سنة حيث يقول عنه.-وكان يستحضر في مجلسه بعد مطالعة الشروح من أمهات الفقه ؛»ابن يونس» و»التبصرة» و»التنبيهات والمقدمات» و»البيان» و»التونسي» وغيرها لما يحتاج إليه. ويستظهر عن كتب المتأخرين، ويقول الفقه منها أيسر لسلامتها من آفة الاختصار»(38) -أما صور الفقه فالاعتماد فيه كان على «تنقيح» الشهاب» للقرافي و»جمع الجوامع» لابن السبكيي، وغيرهما. هذا إضافة إلى علوم اللغة، والصرف، والبلاغة، والتوقيت، والحساب، والتصوف، والعلوم العقلية، مثل المنطق، والجدل، والمناظرة… -من الملاحظات المهمة كانت الاهتمام بالأدب، رغم غلبة العجمة على الألسنة، وخير دليل على ذلك وفرة هذا الإنتاج الأدبي نشرا وشعرا حيث تشكل الأحداث السياسية والمناسبات الدينية فرصا للتباري بين العلماء والطلبة في نظم الشعر. فهذا الأمير أبو زكرياء يحيى الحاجي إذا حل المولد النبوي كان يستدعي الطلبة فيتبارون في إنشاد الأشعار، وكان التمنارتي من الذين يرفعون قصائدهم بالمناسبة.(39) وكان العلماء يشجعون طلبتهم على الاهتمام بالأدب لأنه وسيلة إلى امتلاك زمام اللغة العربية، وطريق إلى الترقي في سلم العلوم، وقد اشتهر النابغة الهوزالي وهو أحد أساتذة الجامع الكبير بأنه كان يمزج دروس الفقه بالأدب والتاريخ.(40) كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فاعتماد العلماء في التدريس كان على المختصرات نظما ونثرا، وتختلف الطريقة باختلاف العلوم والعلماء. ويغلب عليها كثرة المحفوظ. ومن خلال كلام التمنارتي يتضح أن طريقة التدريس كانت مزيجا من السرد والبحث والتنقيب مع الحفظ المتقن، كما هو الشأن في مدارس الجبال.(41) فيما يتعلق بأرزاق العلماء والطلبة فقد كانت من جرايات الأحباس الرودانية، ويختلف الحال توسعة وضيقا من ناظر لآخر. ففي عهد القاضي الهوزاي عاش الطلبة في بحبوحة ورغد عيش حيث «أطلق يده مما إلى نظره من أحباس حاضرة سوس، وكان يرى أن توفر مستفادها ذريعة التسلط عليها.(42) ونفس الشيء نقله أبو زيد التمنارتي أيام قضائه، وتعرض بذلك إلى العزل والمضايقة، وعندما تعسر الأحوال، فإن الطلبة يعيشون من كذ يدهم، وذلك كنسخ الكتب لمن يطلب ذلك مثلا، وكان بعض العلماء يتورعون عن أخذ الأجرة من الأوقاف، ويكتفون ببعض أعمال الزراعة وغيرها من الحرف، فكأنهم يتمثلون في ذلك بأبي شامة الدمشقي حين اشتغل بالفلاحة فلامه بعض الناس في ذلك فقال: لا تلمني على الفلاحة واعلم أنها من أجل كسب وأثرى كيف لا ألزم الفلاحة باقي عمري لا أزال حصادا وبدرا وبها صنت ماء وجهي عن الناس جميعا وعشا في القوم حرا إلى أن يقول: اتخذ حرفة تعيش بها يا طالب العلم إن للعلم ذكرا لا تهنه بالأنكال على الوقف فيمضي الزمان ذلا وعسرا(43) من الملاحظات البارزة كذلك أن هؤلاء العلماء لم يكونوا أهل فتوى ورجال معرفة وقضاء فقط، بل كانوا شيوخ تربية، وعلى قدر كبير من الزهد والورع، متواضعين رغم رفعة مكانتهم، لا يحبون الظهور، ويترفعون عن المراتب والمناصب، أغلبهم امتنع عن ولاية المناصب، وبعضهم تولاها على مضض.وكمثال على ذلك نسوق قولة أحمد بن مسعود الهرزالي للتمنارتي بعد ولاية هذا الأخير للقضاء حيث قال له:«بلغني أنهم ابتلوك بالقضاء فسرني ذلك مرة وساءني مرارا، فعليك بتقوى الله واتباع العلماء، والتأني في الأمور، والله يعينك والسلام. كما يقول سعيد بن علي الهوزالي في آخر عمره، نادما على تولية القضاء، «أكل الشيح أولى منها»(44). وفي هذا كله دليل على شدة محاسبتهم لأنفسهم، ذلك لأنهم خلطوا العلم بالزهد والمراقبة الدائمة. لقد اشتهر علماء الجامع الكبير الروداني، وداع صيتهم في البلاد الغربية، فأحمد المنصور يقول عن أبي عبدالله التمساني: «ليس عندنا بالمغرب أخطب منه، إلا أن الله اختاره لحضرة تارودانت، وإن لم تكن كرسي الخلافة»(45) وأبو مهدي عيسى السكتاني مع أبي زيد اليعقيلي عندما انتقلا إلى مراكش ذالا من العلماء ما يستحقانه من التجلة والاحترام، فاشتغل الأول بالقضاء الفتيا والتدريس، كما اهتم الثاني بالفلك والتنجيم والتوقيت.وعندما تضطرم المشاحنات العلمية يطع نجم علماء الجامع الكبير، فعندما استخف قاضي الجماعة بفاس بعلماء تارودانت أفحمع سعيد ابن إبراهيم الهلالي حيث ألقى عليه أسئلة غريبة في الفقه واللغة في قطعة منظومة، ولم يحر الحميدي جوابا، وحمل معه القطعة إلى فاس، حيث تأخر الرد أربع سنوات، وكان المجيب هو أحمد المنجور. والقصة مشهورة ذكرها ابن القاضي في «درة الحجال» والأفراني في «النزاهة» والتمنارتي في «فوائده»(46). خاتمة: هكذا كانت الحركة العلمية بالجامع الكبير في مدينة تارودانت حاضرة سوس خلال القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، دائبة مشعة. وهكذا كانت هذه المؤسسة، في شموخها وتحديها لعوادي الزمان، منارة علم تجاوز إشعاعها العلمي حدود سوس إلى بقية البلاد المغربية، واستمر هذا الإشعاع، واتصلت حلقاته خلال القرون التالية حين عين فيه كبار العلماء بأوامر وظهائر سلطانية، وغصت جنباته بالحلقات العلمية وكثرة الطلب. ومن أبرز العلماء الذين ددرسوا بع بعد القرن الحادي عشر تذكر:القاضي الهوزيوي، والعلامة ابن سالم الروداني، والحاج عمر الوقاش التطواني، وأحمد بن عبد الرحمان الجشتيمي، والقاضي محمد بن صالح الروداني، وسيدي محمد الجراري. والحاج مبارك بن سعيد المصلوت، وسيدي عبد الله خرباش والقاضي سيدي موسى بن العربي والعلامة الفاطمي الشرادي، والقاضي سيدي أحمد بن الحاج مبارك المصلوت، والباشا الشنقيطي البيضاوي.غير أن تلك الجذوة ما لبثت أن انطفأت لأسباب كثيرة، من أبرزها محاربة المستعمر للتعليم الأصيل تارودانت ما نال من قبل جامعة القرويين، وجامع ابن يوسف، والمدارس العتيقة من مكائد متتالية، إلى أن عطلت حلقات الدرس بها، وانصرف الطلبة إلى المدارس النظامية العصرية. وعندما انطلقت في المغرب تلك الحركة النشيطة لإحياء الكراسي العلمية في الحواضر، شملت هذه المفخرة مدينة تارودانت، حيث افتتحت كراسي العلم بالجامع الكبير من جديد يوم الجمعة 24 جمادى الأولى عام 1408ه موافق 15 يناير 1988م، في حفل رسمي كبير بحضور السلطات والأعيان.وهذه الكراسي العلمية تقوم اليوم بدورها ورسالتها التقليدية، والأمل معقود عليها من أجل وصل الحاضر بالماضي، وإعادة مجد الجامع الكبير العلمي إن شاء الله.