تعد الكتابة واحدة من أخطر السلط التي يمتلكها الإنسان بين يديه، لقدرتها على تشكيل الرأي العام وتوجيهه وتأسيس الفكرة وإلغائها، بل وتعد في أحايين كثيرة، أداة لإبادة الآخر ووأده والقضاء عليه. ولهذا، أعتبر ما أقدم عليه ظاهرة الصحافة المغربية “رشيد نيني” خطأ جسيما ما كان ينبغي أن يحصل، ذلك أنه حاول لي عنق الأحداث لأجل ربط مسيرة “البيضاء” السوسية بالأجندات الخارجية، بما يشبه الإدانة لواقعة لم تحصل بعد، بطعن سافر في قيم السوسيين المعروفين بالوطنية الصادقة، واتهام مبطن بقطيعية (من القطيع) الذين حجو إلى البيضاء يوم الأحد المنصرم. في المقابل، أعجبني انضباط الهيئات المدنية السوسية في حملتهم الترافعية الاحتجاجية الحضارية، وأعطوا دروسا بليغة لصاحب عمود “شوف تشوف” و”يوميات مهاجر سري”، والذي يصر مرارا على التذكير بامتداده الروداني لتأكيد حجته الضعيفة، وله عذره، لأنه لم يتخذ بعد أجداده “تارودانت” موطنا حتى يجد يوما حقله في الصباح قد أتت عليه دواب الرحل، أو يرتعب من صوت رصاصة طائشة قد مرت على منزله وهو يحتسي قهوته الصباحية، أو يجد الخنزير ذات مساء وقد حكم بالإعدام على مجهود مضن يوم واحد في حقل من حقول الدرة. كما وجهوا رسالة واضحة مفادها أن “السكين قد بلغ العظم”، وأن السوسيين أيضا لهم صبر قابل للنفاد والتلاشي، عندما تبلغ الإهانات مبلغا لا يطاق، وتمس المبادئ الأصيلة المؤسسة للهوية والماهية والوجود. فبعد الأحداث الجسام التي عرفتها مناطق “آيت باها أودرار” و”تارودانت”، على شكل اعتداءات سافرة للرعاة الرحل على الممتلكات والأعراض، حتى بلغ الأمر درجة نشر فيديوهات توثق لبعض الممارسات اللاقانونية في حق بعض السكان، حمل ذلك رسالة فظيعة لأهلنا بسوس، تشير إلى دونيتهم عن من يسوقون مئات الجمال إلى أراضيهم وممتلكاتهم، وأن قيمة “الأرض/أكال” بدت شيئا متجاوزا، بل وبلغ بهم الحد إلى الاستهتار بقيمة ثانية وهي “الإنسان/أفكان” كخطوة جريئة مجاوزة لكل الأعراف والقيم. هذا بالذات ما استطاع أن يخرج ساكنة القطر السوسي للشكوى، لكي تصل رسالتهم أهل القرار، فيعيروا الانتباه للتهديدات المحدقة بالإنسان والمجال. ****** كنت من الذين كتبوا وتابعوا هذا الموضوع مدة طويلة، وعرفت أن مكمن الداء ليس أبدا في الخنزير البري، ولا في الرعاة الرحل، ولا في جحافل القناصة الذين يقتربون يوما بعد يوم من قنص الدجاج في خمه. هذه مجرد أعراض لداء خطير اسمه “التحديد الغابوي” الذي استيقظ الناس على وقعه قبل سنتين ونيف من الآن، أمام نخبة سوسية (منتخبون- سياسيون- مثقفون-إعلاميون…)، صامت عن الكلام حول قضية ستؤثر فيما بعد على نمط العيش ب”تمازيرت” وستحول الأخيرة إلى فضاء منفر عوض منطقة جذب هادئة ومسالمة. وهنا أود القول، بإن الذين نذروا أنفسهم للوقوف في مقدمة الفعل الترافعي حول هذه القضية اليوم يجب أن يعرفوا هذه الحقيقة، ويتجهوا بعد هذا الشكل إلى الآليات الترافعية القانونية، لتبيان الخلل الدستوري في القوانين والإجراءات المؤطرة لقانون “التحديد” بشكل جماعي ومسؤول، عبر محامين أكفاء، وآليات مسطرية دقيقة، وما عدا ذلك، فهو اجترار لتجربة ماضية بداية العقد الحالي طغت عليها العاطفة وانكبت على الفعل الاحتجاجي إلى أن خمد ذلك النفس، وتفرق الناس بعدها شيعا كأن شيئا لم يكن !