لم يدخل المقهى هذا الصباح شخص بائس يائس مثلما دخلها هو، أحد مستشاري الجماعة ..كان محملا بالهموم والأحزان إلى درجة الإشباع، ظهرت علامات السخط على محياه، وعلت وجهه مسحة من التعب والعياء، وإنطلق لسانه بما يضمر من غضب وتذمر ممن حوله . صاح في وجهي، موجها السؤال لكل من كان ساعتها في المقهى قائلا: بالله عليك أليس بموجع أن يشعر المرء بوخز جحود الناس ونكرانهم الموغل في الألم، وهم يقابلون تطوعك وتفانيك في خدمتهم بجحود فاضح، ويواجهون إهتمامك بمشاكلهم في دائرتهم، ومعايشة معاناة أبنائهم بنكران غامر، وأنت الذي لعبت مند توليك مسؤولية شأنهم، أكبر الأدوار في حل أكثر معضلاتهم، فقربت منهم كل الخدمات الضرورية، الصحية والبيئية والاجتماعية، وكنت خير وسيط لتحسين أحوالهم، ودرعا لوجيستيا أساسيا لتحسين ظروفهم، ومصدرا قويا لتنمية أحوالهم الاجتماعية والثقافية، ومحركا فعالا لتغيير واقعهم ومواجهة جل المنزلقات التي ترهن حاضر ومستقبلهم، بإختصار كنت أداة حقيقية لإرتقاء محيطهم والمحافظة على ممتلكاتهم من إستغلال العابثين .. فكالوا لي جزاء "سنمار". ما بك ؟؟ هون من روعك. لاعليك لا تهتم.. ؟؟ إحك .. ففي البوح سلوى وتفريج عن الكرب .. قال صائحا هائجا : ماذا أقول ؟ لقد بلغ السيل الزبى.. ولم يتبق من مجالس الجماعات إلا الشكل والمظهر؟؟ إنك إذا أردت أن ترسم بورتريه ولو تقريبي لها، فإنك لاشك سترتبك وتقع في ماوقعت فيه من حيرة ودوخة عارمتين، من كثرة علامات الإستفهام التي ستحاصرك كما حاصرتني وكل من أطل من قريب أوبعيد على "هذه الطنجرة" وأحوالها. فبأي المنغصات أبدأ ؟؟ ومن أي الزوايا والأركان أفتتح الكلام؟ فهي من خارجها مجالس البدلات السينيي، والسيارات الفارهة، و الحفلات الراقية والمهرجانات الفنية الرفيعة، وأفراح الصفوة وأكلا "السومون فومييه" و"الكافيار الروسي" ولحم النعام والسمان والزرزور.. فإذا تركنا جانبا هذه الصورة الترية الغنية المخملية للمجالس، وتلصصنا من ثقوب أبوابها الخلفية، وفي كواليسها الجانبية، لتجلت لك الحقائق العارية، الغائبة أو المغيبة عن الكثير من الناس، ولتبدت لك في خالية من زيف وقارها وهدوئها المفتعل وإبتسامات سماسرتها المصطنعة، حيث ينكشف لك مستورها، وتنخلع تياب شعاراتها البراقة والتي إعتبرناها بديهيات ساهم في ترسيخها لدينا بعض رجالات السياسة بحسن نية أو من أجل الكراسي والمناصب .. ما يلفت الانتباه في مجالسنا عند قراءة كفها، وفنجانها، أن قرفا مزمنا يعمها، وأعصابا مشدودة تحفها، وتحفزا دائما للإعتراض والمعارضة يخنقها، وعصبية عارية مكشوفة تكتنفها، تبلغ درجة هستيريتها مع أدنى إنفعال لتتحول إلى شجار ثم معارك ضارية واستعداد الجميع للوصول بتلك المعارك الواهية إلى أقصاها حتى ولو كانت في غير الصالح العام وتضرة بالبلاد والعباد. لأنها، مجالس تعاني من أنيميا حادة في التواصل، وجوع وفقر شديدين في التحاور، فاللغة بين مكوناتها مبثورة، واللسان أخرس، والأعصاب متوترة، مما يزيد من قوقعة النفوس الضعيفة حلكة وسمكا، ويدفع أكثريتهم لإدمان الزيف والنفاق والضحك على النفس والغير. أما من إحترم نفسه من المستشارين وأحب وطنه وأخلص النية له وألغى التناحر المصلحي من قاموسه، فالتهميش والغربة القصرية مصيره المحتوم بين جهابدة الغش والإنتهازية.. أكثرية المجالس شديدة الهشاشة بما تراكمت عليها من عوامل الفساد نخرتها من الداخل والخارج، وحولتها إلى ركام كيانات دستورية تحيى بالكاد أزهى عصور تدهورها وإنحطاطها.. أما الكثير من مستشاريها-إلا من أخد الله بيده- فلكل في غابته الخاصة شأنه وقانونه الخاص به، و فوضاه المحببة التي يخلقها بيده ويد معاونيه، فلا قيمة ولا حساب للوقت، ولا إخلاص في الواجب، ولا بر بالوعود والمواعيد، ولا أداء للواجب والأمانة. عبث في عبث، خداع وتلفيق وفبركة للأعذار لتبرير حجم الفشل الذريع الذي تعرفه تلك المهمة السامية والمسؤولية الخطيرة والتي لا يتحملها إلا الصادقون في حبهم لوطنهم، المخلصون لوطنيتهم ما دفع الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله ليمنى لو أن الدستور يسمح بالترشح ليترشح لمنصب مستشار جماعي. مستشار جماعي حقيقي لا كما هو اليوم وفي جل المجالس رجل يتغنى بالمستقبل وإشراقاته، ويحرق الحاضر بكل تطلعاته.. بتنازلاته عن كل قناعاته وايديولوجياته،إن كانت له فناعات واديولوجية، وعمله على توظيف كل الإمكانات الفكرية والمهنية والعلمية في خدمة السلطة وكل ما يكرس في الذهنية الجماعية الاستسلام والخنوع للوضع القائم. وأنا أستمع لهذ البورتري الكارثي إنتابنتي أفكار هوجاء إقتلعتني من سكوني، وحطمت هدوئي، وبعثرت طيوفا في زوايا عدة من ذاتي، فإذا بي أناجي نفسي بما يجب أن يكون عليه العمل الجماعي وصفات القائمين عليه.. فبلغت بي الأمنيات مداها، والرغبات أقصاها، وتخيلت من يتولى شؤوننا المحلية، عضوا قويا صادقا أمينا ومخلصا وعلى إستعداد كامل للتضحية بكل مخصصاته وإمتيازاته المغرية، إذا لم يُلتفت إلى ما تقدم به من مقترحات وتوصيات لصالح المدينة وساكنتها، فالعبرة ليست بكثرة المشاريع المتبجح بها " فمويا " ولكن فيما أنجز منها. الأهداف السامية والنبيلة لا ترسمها إلا العقول المخلصة والنظيفة وأصحاب هذه العقول الذين يرسمون مثل هذه الأهداف التي تفيد المجتمع بتحقيقها ويسعد الناس بنجاحها، هم وحدهم من يستحقون منا كل التقدير والإحترام والدعم والمساندة.. ليس كأولئك الذين يتنافخون شرفا بإدعائهم الدفاع عن الوطن والموطنين، ويتباهون بكثرة تصريحاتهم التي لا يتحقق منها على أرض الواقع أي شيء غير الفرقة والدغينة.. فهل سمعنا يوما عن مستشار أو مجموعة منهم قدمت إستقالتها إحتجاجا على عدم تنفيد مشاريع تقدموا بها في دورات المجالس لإصلاح أحوال العباد. ربما يقول قائل أنه قد لا يوجد من بين مستشارينا الجماعيين من يستطيع الإجابة على هذا السؤال رغم بساطته. وليس بينهم من يجرأ على تقديم استقالته، فذلك أمر ليس بالميسر ولا المفروش بالورود، ولا يقدر على الإقدام عليه إلا الوطنيون الغيورين والمتقون الواثقون من أنفسهم وقدراتهم وهم قلة قليلة جدا لنها محترمة جدا، أما ضعاف الشخصية فلا يراوحون أمكنتهم ولا يتقدمون فتيلة لأن " الجود يفقر والإقدام قتال"، وأنه " لولا المشقة لساد الناس كلهم" كما يقال.. ما كنت أريد أن أنكأ الجراح وأفضل أن يبقى "الطبق مستورا" ولكن كل تصرفات أكثرية منتخبينا تدفع بنا لفضح المستور، فإذا نظر أي منا حولنا وفي أي اتجاه شاء، فإنه، وللأسف، لوجد أن معظم الثقافات الجميلة والمهمة التي يتحلى بها منتخبي الشعوب المتحضرة، لا وجود لها في قاموس الكثير من المنتخبين المغاربة، ولا في البلدان العربية قاطبة، فلا وجود عندهم لثقافة الوقت ولا وجود لثقافة الإنتاج ولا وجود لثقافة المسؤولية، فكيف نريد منهم أن يتشبعوا بثقافة الإستقالة وهي مسؤولية كبيرة، وقد تشبعوا ثقافة المنصب والاحتفاظ عليه حتى آخر رمق. فخرافة استقالة المنتخب أي منتخب من منصبه، مستحيلة. بل هي من سابع المستحيلات، بغض النظر عن حجم وأهمية ومكانة المنصب، سواء كانت المناصبها دسمة أو هزيلة، في الدولة أو في الاحراب بمختلف تنظيماته وحتى في النادي الرياضي. فكيف لمجتمع يتقاتل ويستذبح على مناصب في فريق أو في نادي فقير أن يترك المناصب المهمة في الدولة أو الحكومة أو المؤسسات الدستورية أو المؤسسة أو الحزب الكبير، أن يقدم على شيء اسمه الاستقالة وهو لا يعترف بها وبوصفها مسئولية. وذلك لأن حب المناصب داء مغربي وعربي اصاب الجميع بمرض الصمم عن شيء اسمه الاستقالة او التخلي عن المنصب حتى لوا سقطت السماء على الارض وهو مبدء يختصر حالة مغربية/عربية مهوسة بالمناصب بغض النظر عن نوع وحجم المنصب المهم المنصب والسلام. فكم سمعنا ونسمع بين الحين والآخر عن تهديدات بالاستقالة من المنصب هنا وهناك، ،ففي مطلع ثمانينات القرن الماضي، رفض نواب الاتحاد الاشتراكي الاستمرار في البرلمان، بعد تمديد فترة ولايته عامين، عزاها الملك الراحل الحسن الثاني وقتذاك إلى تطورات قضية الصحراء والإفساح في المجال أمام منظمة الوحدة الأفريقية لتنظيم استفتاء كان اقترحه المغرب أمام قمة نيروبي، كما عرفت تسعينات القرن الماضي، استقالة محمد حفيظ، القيادي في الشبيبة الاتحادية آنذاك، بدعوى أن الإدارة "زورت الانتخابات" لمصلحته على حساب نائب آخر . وغيرها كثير لكنها تبقى في مجملها تكتيكا سياسويا كالاستقالة التي أعلن عنها قبل أسابيع مصطفى الرميد، عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ورئيس الفريق النيابي للحزب في البرلمان، استقالته النهائية من البرلمان، الذي يمثل فيه دائرة عين الشق بالدار البيضاء. الاساقالة التي أحدثت ضجة وجدلا سياسيا حسب يومية "المساء" التي نقلت عن الرميد قوله أن الأسباب الكامنة وراء قراره استقالته هو "تهميش مؤسسة البرلمان وفرض حصار عليها" هذه الاستقالة التي سرعان ما تراجع عنها وكأن أسبابها زالت، فخرج منها كما الشعرة تخرج من العجينة ليصبح بطلاً وضحية يرفع فوق الأعناق وتهتف باسمه الحناجر.. بمبرر أنه حزبي منضبط يمتثل لقرار حزبه، وبدعوى أنه لم يقدم استقالته كما يريد الخصوم والأعداء.. مع العلم أن قرارات الاستقالات يكون دائما شخصيا ولا يعني سوى أصاحبه. وكل من ربط استقالته بشرط أو قيد فإنما يريد بها الضغط ليفاوض من اجل غاية في نفسه كالربح السياسي مثلا. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح اليوم بعد هذه العاصفة التي تشبه زوبعة في فنجان، كما جاء في عمود الصحفي رشيد نيني "شوف تشوت": هو ماذا ربح الرميد سياسيا؟ ولو أن الرميد يأتي غدا ويعلن عن نيته تقديم استقالته فإن أحدا لن يصدق كلامه. ببساطة، لأنه لوح بنفس «الكمنجة» سابقا دون أن ينجز تهديده. إن الاستقالة لا تصلح للتهديد. ولحسن الحظ لم تكن كل الاستقالات التي عرفتها الساحة السياسية المغربية كلها من باب المؤامرة والتكتيك السياسوي. لكن كانت هناك بعض الاسقالات المسؤولة والجادة والتي لم يكن أصحابه من المرائين الذين يبغون من وراء استقالتم الربح السياسي والشهرة، وهما، على سبيل المثال، الزعيمان الفذان، السيدان الأستاذان محمد بنسعيد آيت يدر المكنى بالشتوكي، ومحمد بوستة، اللذان قدما استقالتهما من على رأس حزبيهما ومسلما المشعل والأمانة للجال الموالي بأريحية وفي شموخم وجسارة. هذا النوع من القادة المميزون بمواقفهم وممانعتهم للمشاريع المعادية لأمتهم وأوطانهم، الحملين لآمال وتطلعات الجماهير، والذين لا تقل استقالتهم عن استقالة وزير الداخلية الهندي وزميله مستشار الأمن القومي بعد كارثة مومباي الارهابية، هم قلة قليلة جدا في هذا الزمان الذي تسيطر عليه الفردية والأنانية والربحية المقيتة .. لا أريد أن أكون مادحاً في هذا المقام للقائدين لكنهما يستحقان كل الثناء والمديح.. [email protected]