إستقليت الحافلة رقم 09 إلى المنطقة الصناعية ،حملت معي ملفي الدوسي، كان يشمل نهج السيرة وبعض الوثائق المخزنية ،بدوت غريبا عن بيئتي رغم أني طنجاوي قح، أنا خريج كلية الحقوق . داخل الحافلة كان الجو حارا و روائح العرق النتنة تفوح من الأبدان زادتها روائح الأحذية عفونة ونتانة ، وقفت إلى جانب ركاب أخرين بينما كان البعض جلوسا ، كانت الحافلة مزدحمة وقد ضاقت بالراكبين ،إختلطت الأبدان وتعانقت مرغمة وكُتمت الأنفاس عنوة حتى أنهم بدو وكأنهم في حاوية مضغوطة تذكرت أغنية أحمد عدوية زحمة...الدنيا زحمة ...تاهو الحبايب ...ولاعدش رحمة ... جلت بحركة من عيناي .تحرك البؤبؤ لاشيء يظهر أمامي سوى منظر الهياكل البشرية التي تبدوا مثل اشباح آنبعتث من المقابر ،همهمات وصوت الباب يفتح محدثا رجة عنيفة .أناس يتكدسون طبقات حسبت نفسي في الهند ، صوت ينبعث من الداخل - باركا راك آخنقتينا... صوت نسوي أخر - باركا ما تحك فيا ...راني مزوجا الحمار
ضجيج وعبارات مختلطة من لكنات جبلية وعروبية وحتى ريفية ، في ذهني كنت شبه مغيب لم أكن أفكر في شيء لأنني شعرت بأني أكثر ضياعا وتيها من ذي قبل ،تذكرت في غمرة التيه خطيب المسجد سخرت من قولته الشهيرة تزاحموا تراحموا . أدرت ظهري إلى حيث النافدة ، بحث عن مخرج أستفرغ فيه غضبي بعد أن كتمت الحرارة أنفاسي .وجدت حواشي الباب التي يدخل منها القليل من الريح غير أن كتل اللحم كانت تصده وتعترض طريقه فعدت بوجهي إلى نافذة صغيرة كنافذة زنزانة "ساطفيلاج " على طول الطريق كانت السيارات تبدوا مثل السلاحف في بطئها بسب أشغال الحفر والترقيع بينما بدت الأعلام الوطنية مسنودة بشكل يخفي واقعا بئيسا . منبهات السيارات تقرع طووووووط ...كأنها تعلن ضيق وتشنج البعض ،كأنهم في عجلة من أمرهم .تمنيت صاروخا يخرجني من بلدي ومن طنجة . سمعت السائق يقول : - إننا في عصر السرعة . فيرد عليه الأخر : - وماذا ستفيد السرعة مدينة متخلفة كطنجة ؟
توفقت الحافلة رقم 09 في المحطة التي لا تبعد عن المنطقة الصناعية إلا أمتارا ،قرب الباب الرئيسي يستعرض السكريطي عضلاتهم الهزيلة على أناس يشبهون العبيد يطلبون سيدا يستعبدهم في مصنعه ،أنا أيضا عبد مثلهم لأني جئت أطلب سيدا يستعبدني . فتيان ...نسوة...فتيات من مشارب وعرقيات عديدة يقفن في طوابير يطلبون عملا في "الكابلاج " يرمقهن السكريطي بنظرات مزيج من شيطان يشتهي تفاحا أنثويا يتم عزله عن بعد. الهندام الحسن والغنج والمؤخرة المكتنزة شرط الولوج لمنطقة الرأسمالي حيث يوزع الإله الرسمالي الأرزاق ،تذكرت مقولة السيد الرأسمالي : - مات الله ومات ماركس والإقتصاد الرأسمالي حي لا يموت . قال السكريطي الهزيل البدن العبد عند الباب وهو يتفحص جسما أنثويا بغنج ودلال - أ..الزين ...حنا هنا الكل في الكل ...هاك وارا ما فيها شطارة ... قالت بعد أن عدلت من مشيتها - نعطيك النمرة...أُوما تبقى غير على خاطرك... ثم أضافت - إوا خليني ندخل ... همس في أذنها - دُوخلي الزين...أُمتنساشي غير بيبي... دنوت منه قليلا وقلت - واش وصلكم شي فاكس ؟ رد بغضب - سير ...ستنا...
عدت لزاوية ظليلة هربا من شمس يوليوز الحارقة ،لم أجد ما افعل سوى إمعان النظر في الشجرة التي منحتني ظلها بسخاء ومن دون مقابل ،إلى يساري نبتة الدفلة التي أزهرت بزهورها الجميلة .لا أدري لما همس في أذني شيطاني بقطف إحدى تلك الأزهار مستذكرا لعبة طفولية بريئة كنا نلعبها ونحن صغار ، كانت اللعبة لا تحتاج إلا لزهرة نبتت على الهامش أو في الحدائق العامة لنلتقطها خلسة ونقطع وريقاتها الواحدة تلو الأخرى ونقول بمرح طفولي : هنتزوج ...مهنتزوجشي ...هكذا إلى أن تنتهي وريقاتها وتنفذ مع أخر كلمة قد تكون لا وقد تكون نعم . جربت هذه اللعبة البسيطة لكن عبثا لقد رميت الوردة بعيدا عني ، نظرت مجددا لساعتي اليدوية غضبت ولعنة العالم ومعهما السكريطي .لقد عزمت العودة من حيث أتيت . توقفت الحافلة رقم 09 فتذكرت معها أغنية أحمد عدوية من جديد ثم أنشدت مرة أخرى زحمة...طنجة زحمة...تاهو الحبايب ولا عدش رحمة...أرح من هينا ...زحمة...زحمة.