في مثل هذا اليوم من السنة الماضية، استفقت باكرا على إيقاعات أشعة الشمس الناقرة على زجاج النافذة باكرا، فتحت عيني على صباح أطل باشاَ ملاطفاَ.. غمرني دفء لم أحس به قبل أيام، حيث كنت إذا فتحت النوافذ لسعت وجهي برودة حبات الثلج ونتفه المتساقطت بلا انتهاء والتي غطى ببياضها الملائكي شرفة البيت وأشجار حديقته وسربل الدنيا من حولنا بسحره الخلاب وبياضه الناصع اللماع. تذكرت حينها أن الربيع قد حل على هذا البلد، جميلاَ عليلاَ عذباَ كأهلها، يتوه العقل في وصف ملامحه.. وتحار الروح بكل ما أتيت من رقة في عذوبة في سرد نسائم مكنوناته.. ولا يقوى القلب بكل ما فيه من أحاسيس، على الإلمام بشاعرية مداه. استنشقت الهواء الربيعي العذب النقي معبئا رئتي حتى الثمالة.. ابتسمت للندى الذي غمر كل جوارحي من خلف زجاج النوافذ، تثاءبت محاولا التكيف مع دفء أجواء هذا الفصل البديع، بششت للزهر، وللطير الوله ببهاء الطبيعة ومفاتنها الغناء في هذا اليوم. خرجت أتمشى على نهر اليونYonne (1) بمقاطعة بورجون. جذلا تحدوني نشوة الاحتفال بمراسم الحان الخلود والأبدية التي مزقت كل الحزن والكآبة، وأحرقت بسنفونية شهية كل أشكال الصمت والرتابة. لم أكن وحدني هناك على الضفاف المزهرة، بل كانت أعداد كبيرة، وجماهير غفيرة، افتقدها النهر زمن الصقيع الطويل.. هجر الجميع، بملامحهم الأوروبية والآسيوية والإفريقية.. البيوت ليشاركوا الطبيعة مهرجان تتويج ملك الفصول بالخضرة والنضارة. صورة احتفالية رائعة، تثير حسد الحاسدين أمثالي الوافدين من بلدان الجنوب والصحاري التي لا وقت فيها لانبثاق الحسن والجمال، حيث ليس هناك عندهم في الجنوب والصحاري، غير الجذب المستدام يلاحق كل ما نبض بالروعة والجمال. رأيت على الضفاف، جمال الشعوب حين تعيش مستشعرة غاية خلق الله الناس، قبائل وأجناسا لتتعارف على قيم الجمال والمحبة والمساواة وذوبان الأعراق وتبخر الطائفية... وخلال مشي على الضفة الغناء، مررت على نساء ورجال قد جلسوا على الكراسي المنتشرة هناك بأعداد وفيرة، يتأملون في هدوء ورومانسية، ما أبدعت يد الماهرة الخلاق من جمال تحركه روحه المتذوقة العالية، وتسمع تغريد أصناف النباتات والأشجار واللأزهار والورود التي لا انتهاء لها والمبتوثة على حافتي النهر الذي تعلو على خرير مياهه صراخات بط وبجع يتراقض على صفحة النهر في شغب جميل ونشوة شاعرية، راغبا في أن ينال نصيبا من قطع الخبز المبعثرة التي يلقي بها زوار هذا اليوم الجميل.. سرت فوق الجسر التاريخي مبهورا بتموجات الماء الراقصة على أنغام الغيمات المتناثرة في السماء.. ابتعدت عن البط وصراخه اللذيذ، ورحت أصعد الدرج الحجري المتقادم المؤدي إلى الدروب الضيقة للمدينة العتيقة المشرعة نوافذها على جو البهجة، المنبعثة مما زينت به الشرفات من ورود وزهور ورياحين وملايين الياسمين المحتفية بقدوم الروعة، فصل الربيع..