يمتح شهر رمضان في طنجة ألوانه من عبق تاريخ قديم للمدينة، ويستمد تقاليده وطقوسه من ماضي المدينة المختلف، وحاضرها المتميز عن باقي المدن المغربية. يأتي رمضان إلى طنجة مسبوقا بالرائحة، خصوصا في الحارات الشعبية القديمة التي تتجاور فيها الأبواب والنوافذ، حتى أن الناس يتبادلون الملح والسكر يدا بيد من النوافذ التي تكاد تتلاصق في بعض الأزقة. في المدينة القديمة، وفي حارات السقاية ودار البارود وبني يدّر، تصبح رائحة رمضان أكثر قوة من باقي الحارات. المطابخ تلفظ عبر النوافذ روائح الأكل وعبق التوابل والبهارات، والباعة الذين يفترشون مساحات إضافية أمام متاجرهم من أجل إضافة سلع جديدة خاصة بهذا الشهر. طنجة مدينة مختلفة في تاريخها وماضيها وحاضرها، لذلك فإن رمضانها يختلف بعض الشيء عن رمضان المدن المغربية العتيقة الأخرى، لكنه يلتقي مع باقي التقاليد الرمضانية المغربية في أشياء كثيرة. أهم ما تختلف فيه طنجة في رمضانها هو كونها مدينة حدودية على مضيق جبل طارق، وهذا ما يجعلها قبلة للمئات أو الآلاف من الحالمين بالهجرة السرية نحو إسبانيا، هؤلاء الذين يمضون سحابة نهارهم في تأمل تلك الجبال القريبة للجنوب الإسباني، ويمنون النفس بالوصول إليها في أقرب الآجال وبأية وسيلة كانت. أغلب هؤلاء الحالمين هم من الأطفال القاصرين أو من المراهقين، إضافة إلى نسبة معتبرة من الشباب، هؤلاء يستطيعون خلال الأيام العادية تدبر معاشهم اليومي عبر التسول على أبواب المطاعم والمتاجر، أو الحصول على بقايا الأكل هنا وهناك، غير أن الوضع في رمضان يجعل حياتهم أصعب بالنظر إلى أن الحصول على طعام جاهز يصبح صعبا. وفي ساحة السوق البراني، تنتشر العشرات من بائعات الخبز والحلويات، يحيط بهن العشرات من هؤلاء الأطفال والمراهقين البائسين الذين يطلبون الصدقات من المتبضعين، ويجمعون الخبز في علب بلاستيكية في انتظار أذان المغرب، أو أحيانا يتسابقون ويتشاجرون من أجل الفوز بصدقة أو أعطية من صائمين يرون أن الصدقة أولى في هؤلاء الفاقدين لأسرهم والقادمين من أماكن بعيدة. غير أن رمضان طنجة ليس فقط هذه الصورة البائسة، بل إنه أيضا ذلك الشهر الذي يصبح فيه الليل سيد الأزمنة، وتتحول المدينة إلى خلية نحل خلال الليل. وعرفت طنجة على الدوام بعشق سكانها لليل، تبعا لتأثر سكانها الواضح بتقاليد إسبانية تجعل من الليل أنسب وقت للتجوال والتسامر بين الأصدقاء. وخضعت طنجة لما يزيد عن أربعة عقود لحكم دولي انتهى سنة 1956، وكان الإسبان أهم الجاليات الأجنبية التي عمرت المدينة، وهناك أيضا جاليات أخرى من كل الأجناس من بينهم الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون والأميركيون والبرتغاليون وجنسيات أخرى كثيرة، وهؤلاء تركوا الكثير من بصماتهم في المدينة، وتأثيرا واضحا على نمط عيش سكانها. ليل رمضان في طنجة يبدأ في «البوليبار»، وهو الشارع الرئيسي الذي يضم أشهر المقاهي والمطاعم والمتاجر، ويمتد إلى حدود البحر على الكورنيش، والذي صار بدوره يستقطب عددا كبيرا من عشاق السهر الرمضاني، الذين يتوزعون بين التجوال على جانب البحر، أو الجلوس على أرصفة المقاهي والمطاعم، أو تتبع بعض السهرات الموسيقية هنا وهناك. غير أن رمضان في الحارات القديمة من المدينة، مثل أحياء القصبة ومرشان والسقاية، يعرف نمطا مختلفا إلى حد كبير. ففي الكثير من المنازل العتيقة لهذه الحارات يجتمع الكثير من هواة الموسيقى العتيقة ويمضون جزءا كبيرا من الليل في عزف مقطوعات من الطرب العربي أو من الموسيقى الأندلسية المغربية أو من فن الملحون، بينما يحضر مدعوون من الأصدقاء ومن المولعين بهذه السهرات التي تمتد طويلا في ماضي وتاريخ المدينة. ظاهرة انتشار سهرات الفرق الموسيقية في المنازل العتيقة ليست جديدة، بل تمتد إلى عقود طويلة خلت، بل يرى البعض أنها ظاهرة صارت مهددة بالانقراض، بالنظر إلى أن الماضي كان يعرف انتشارا أوسع لمثل هذا السمر الموسيقي، غير أن توسع المدينة الكبير والهجرة المكثفة التي عرفتها من مدن وقرى مغربية كثيرة، جعلت الكثير من مظاهرها التقليدية العتيقة تتراجع وتتقلص بشكل ملحوظ. في طنجة أيضا الكثير من المساجد العتيقة التي يرجع تاريخ بناء الكثير منها إلى عدة قرون خلت. وتنتشر مئات المساجد في الحارات العتيقة التي تعرف خلال شهر رمضان إقبالا كبيرا من جانب المصلين، غير أن أكبر إقبال هو الذي تعرفه المساجد الكبيرة في المدينة، والتي يؤمها الناس من كل مناطق المدينة حتى البعيدة منها، وهم بذلك يضربون عصفورين بحجر، الأول أنهم يؤدون الفرائض في مساجد كبيرة وفسيحة، وثانيا أنهم يستمتعون بتجوالهم عبر المساحة البعيدة التي تفصل تلك المساجد عن أماكن سكناهم. مساجد طنجة تعرف اكتظاظا أكبر خلال العشر الأواخر من رمضان، وهو اكتظاظ يتناسب مع موعد ليلة القدر، وهو ما يجعل أحيانا العثور على مكان داخلها لا يتم إلا بشق الأنفس.