هذا الحزن المكتوب يقتل فيك كل يوم بسمة، تراه ينتصر وأنت تعاند، فترجوه أن يعفو حين المقدرة ليترك لك فرصة أخيرة تموت فيها مبتسما... ●::::::::::::::::::::::::::::::::::::::● في محراب شمس ربيعية دافئة، يجلس الفقيه بباب دكانه هاربا من الرطوبة الداخلية التي تزيدها رائحة الكتب الصفراء القديمة الممزوجة بروائح الدقيق وأكياس السكر خنقا، ينشر بعضا من تلك الكتب أمامه ليقطف قصة من العصر الجاهلي، وواحدة من صدر الإسلام أو العصر العباسي، ليستشهد بها في خطبته ليوم الجمعة الذي لا يفصله عنه إلا يومان.. وهذه العشية هي عشية يوم الأربعاء الذي غاب اسمه وعوضه الأهالي ب"يوم السوق" فقط. يقرع صوت (بَرَّاح ) القرية آذانه ويُشتت تفكيره يقترب رويدا رويدا: - لا إله إلا الله محمد رسول الله... يا ناس القرية الكرام (ما تْسَمْعُوا إلّا خْبَارْ الخِيرْ).. هذا زائر من زوار السوق قد ضاعت منه محفظة نقود، لونها بُنّي، تحوي مائتي درهم: ورقة من فئة مائة درهم، وورقتين من فئة خمسين درهما، وصورة شمسية وفاتورة كهرباء لم يُؤدَّ ثمنها بعد.. مَنْ وجد المحفظة فليُرجعها لصاحبها وجزاؤه عند الله خيرا.. وله من عند صاحبها عشرون درهما حلال عليه... ودُعاءٌ بالرّحمة لوالديه.." يقترب الصوت القوي للبراح ثم يبتعد، يقترب ثم يبتعد، يجوب دروب القرية طولا وعرضا، وصاحب المحفظة يتبعه إلى أن أصابه الإعياء، أو بالأحرى اليأس من استرجاع محفظته، فاتجه نحو محراب الشمس وجلس القرفصاء بالقرب من الفقيه، واضعا خديه بين كفيه، شَخُصت عيناه على بقعة هلامية من الأرض.. لا يحس بما يجري حوله، فقط هو جثة حاضرة، وعقل غائب في مستقبله الضبابي، (المصروف الأسبوعي، ثمن فاتورة الكهرباء، السجائر، الديون، حلوى الأطفال التي يحملها لهم كل أسبوع... يراهم يستقبلونه بفرح شديد ويداه خلفه فارغتان...) انتبه الفقيه إلى صوت تأوه عميق، نزع نظارته -السميكة التي تساعده على تصفح تلك الكتب الصفراء ذات الخط الدقيق- عائدا من زمنه الماضي، وخاطب الشاب الجالس بقربه: - السلام عليكم بلا شك أنت من ضيعت محفظة نقودك؟ (كرر خطابه مرتين لأن الشاب لم يسمعه لأول وهلة). ● الشاب: آه.. آه.. نعم.. نعم يا سيدي الفقيه.. (فكأنما صب أحدهم عليه كأس ماء بارد أعاده من زمنه المستقبل في رمشة عين) - الفقيه: أين كنت تضعها يا بني؟! ● الشاب: هنا في الجيب الخلفي. لبس الفقيه نظارته مشمئزا من تصرف الشاب، وتأهب للعودة إلى ماضيه مرة أخرى، وقبل أن يُدخل وجهه في الصفحة الصفراء؛ همس إلى الشاب وعيناه تكاد تقفزان من فوق الإطار الزجاجي للنظارة: - في المرة القادمة لا تضع نقودك في مؤخرتك. ● الشاب : "لا... لا... إنها كانت في الجيب الخلفي يا سيدي... (نَرْفَزَة) تعلو محيا الفقيه وهو يرد عليه: -(هادِيكْ أَوَلْدِي أحنَا الّي كَنَحْضِيوْهَا... مَاشِي هِيّ الّي كَتَحْضينّا لَفْلُوسْ). ______ *هلوسة من كتاب (هكذا جُنَّ قلمي –هلوسات ساخرة )الصادر حديثا عن منشورات الموكب الأدبي وجدة 2015