شيء جميلة بل رائعة ، أن ترى الناس يحملون الورد وهم عائدون إلى بيوتهم ، والأجمل منه أن يصبح الورد في بلادنا أفضل ما يقدم في كثير من المناسبات السارة والمفرحة ، لما يحمله من تعبيرات التأدب واللباقة والمجاملة ، وما يرمز إليه من الوجاهة الاجتماعية ، وقد عرفت تقليعة إهداء الورد للأهل والأصحاب والأحباب والأعزاء ، انتشارا كبيرا ، ورواجا مهما في الآونة الأخيرة خاصة بمناسبة عيد الحب . لكن الغريب ، بل المشين والمستفز حقا ، هو أن هذا السلوك الحضري الذي دخل ثقافتنا المغربية على حين غرة ، لم يستطع أن يلغي عادة العبث بالورود والأغراس بكل أنواع في حدائقنا ، العامة والخاصة،على قلتها ، حتى غدت تتشابه جميعها في الجذب والتصحر وقبح المنظر ، ولم يقضي على ما نعيشه من تناقض مع الذات والسلوك ، بحيث أننا لا نزرع الورود في حدائق منازلنا، لمن يملك حدائق منزلية ، أو في المزهريات على شرفات نوافذنا ، أو على سطوح بيوتنا ، كما كانت تفعل جداتنا اللواتي كن يستنبتن الكثير من النباتات العطرية ، كالورد البلدي والنعناع ولحبق والسوسان والسالمية ولعطرسة ومخينزا والشيح والزعتر وفليو وخدوج الخانزة ، وغيرها من النباتات التي تعطي المحيط خضرة ونضارة وجمالا ، تستعملها في خلطاتها المضادة للبرد والحمى و"الحلاقم" الوزتين ، وغيرها كثير من الأمراض التي يتعرض لها أبنائهن والأحفاد .. ولكننا نقتلعها أينما تقفناها ، ومع ذلك نقدمها هدايا ذات معان رومانسية .. في ثنائية مستفزة ومثيرة للدهشة تؤثر سلبا على نفسية المواطنين وترغمهم على العيش في فضاءات تفتقر للخضرة التي أصبحت لا تتجاوز المترين أو الثلاثة أمتار للفرد الواحد ، النسبة البعيدة كل البعد عن معيار الإثنى عشر مترا مربعة للفرد الواحد ، الذي حددته المنظمة العالمية للصحة كنسبة طبيعية في أي تجمع سكاني ، في البلدان المتحضرة ، كما هو الحال ، مع الأسف ، في مدينة فاس التي أصبحت ساكنتها تعاني مع الحرمان من الفضاءات الخضراء ، التي يعود الموجود منها - كما يمكن لأي زائر ملاحظة ذلك من أول وهلة - إلى فترة الاستعمار ، والتي لم تواكب مجالسها المنتخبة مفهوم تخضير المدينة كما في البلدان المعاصرة .. وكما كانت الطبيعة , بأحسن الأحوال , بفاس عبر تاريخها الطويل ، متميزة برياضاتها وبساتينها وعراصيها ومشاتلها واشجارها المثمرة المبتوثة في كل شبر من أراضيها، وذلك حين كان لها أبناء كثر ومميزون ، سكنوا بها وسكنت بهم ، تفاخرت بهم وتفاخروا بها، في كل مكان في الدنيا ، إذا سافروا حملوها ، وإذا أقاموا نبضت عروقهم بها، وانفطرت قلوبهم حزناً على حالها وأحوال أهلها ، ولا تصدعت أفئدتهم كمداً أينما حلوا وإرتحلوا ، على ما آال إليه جمال حدائقها ، الذي نُكل بفضاءاته الخضراء التي تحولت بعضها إلى جثامين باردة بلا بأرواح . خائن من يعاند رغبة ساكنة فاس وباقي المغاربة ، ويمنعهم حق التمتع بجمال الربوع الخضراء للطبيعة الغناء التي خص بها الله سبحانه هذا البلاد , وخائن من شرع للإسمنتي أن يتمدد كالأخطبوط داخل المدينة ، ويكتسح كل ضواحيها ، ويطال الأرض والسماء ويغطى كل منافذ الطبيعة ، ويحرم الفاسيين من استنشاق الهواء الصحي ، والاستمتاع بمناظر مدينتهم كما كانت خلابة بطبيعتها الخضراء ، وخائن كل من يتكل على الظروف أو على الصدف لمواجهة مستجدات الأحداث ، ويدفن الرأس في الرمل -كالنعامة- كما إعتاد الكثير من مسؤولينا إخفاء رؤوسهم في الرمل مخافة مجابهة محدثات الأمور وكلما تعرضت المساحات الخضراء للمدينة أو داهمتها المشاكل ، وخائن كذلك من يتمسك من المواطنين بالصمت الجبان ويلتزم الحياد المنافق، فلا يجابه ولا يواجه ، ولا يجهر بحيرته ولا يفصح عن إرتباكه ، ويحل غيابه محل حضوره، ولا ينبش في جذور أسباب التراجع والتدهور الذي يعتري حدائق مدينته، ويترك الأسئلة المصيرية بلا إجابات ، طمعا في مكسب مادي ، أو حفاظا على مركز أو وظيفة . وخائن أيضا من يزكي الوضع رغم فساده ، بتصريحات رعناء مستنسخة محفوظة عن ظهر قلب ، ويردد مع " الغياطة والطبالة " المقولة الشهيرة : "العام زين آ الغياطا زيدو غيطوا".