شاءت الأقدار أن أكون موظفا داخل قطاع الجماعات المحلية وأنا الذي كنت إلى وقت قريب حديث عهد بالوقوف في طابور الانتظار للحصول على وثيقة إدارية في باب الملحقة الإدارية ألزمتنا حينها الحكومة بها، لاجتياز مباراة أو الحصول على ترخيص وكانت نظرتنا حينها لهذا الفضاء" المرفقي" شمولية رسمنا معها صورة الموظف الجماعي الذي في غالبيته حالفه الحظ في الحصول على وظيفة، مكافأة له على خدماته للرئيس في مشواره الانتخابي أو نتيجة "حلاوة " حصل عليها سماسرة المناصب وفي أفضل الأحوال نتيجة "واسطة" لا يشق لها غبار، وقلة قليلة من ابتسم لها القدر قبل الحظ، ومرت من صراط المباراة وفي جعبتها ما تحمله ذاكرتها من مستوى تعليمي ومعرفي، وعلى جبينها مكتوب "حسبي الله ونعم الوكيل"، ومن حين لآخر تدس يدها في جيبها لتحس وثيقة "الاستدعاء لاجتياز المباراة".... شاءت الأقدار أن أنتمي لفئة الموظفين الجماعيين، الذين يلج الواحد منهم مقر البلدية في يومه الأول ومع مرور الشهور والأيام يكتشف أشياء تثير الحسرة ولحظات تجبرك على الابتسامة ومحطات تلعن فيها اليوم الذي دخلت فيه الجامعة وأنت تسمع حوارات الموظفين والموظفات الجماعيين وتنصت بإمعان إلى تساؤلاتهم التي تشبه إلى حد كبير الاستنطاق لكن بلطف كبير وذكاء بالغ من قبيل كيف ولجت الوظيفة ؟وفي أي سلم ؟ ثم مباشرة قد يفاجؤك أحدهم بسؤال عن النزاهة والشفافية. والجميع يعلم علم اليقين أن السائل هو أول من خرق منطق الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص وهو الذي نال تلك الوظيفة بعد حمله للرئيس فوق أكتافه وهتافاته المستميتة للرئيس المرتقب وصاح ملء فاه ووسط الشارع بحياة الرئيس ونسله وصحبه وفصيلته ........ شاءت الأقدار أن أحصل على كرسي بالجماعة وأنصت إلى أحاديث هؤلاء الموظفين التي تتوزع بين مناقشة مستجدات الرئيس وتحالفاته وماذا كتبت عنه الصحف وعن فوائد القروض وأثمنة البقع الأرضية وأسعار المواد الاستهلاكية، ومصير ملف من ملفات التطبيب والدواء وطبعا لا مجال للسؤال عن أوقات العمل التي لا يتم احترامها إلا عندما يكون السيد الرئيس موجودا بمقر رئاسته لينتشر الخبر كالنار في الهشيم بين بقية الموظفين الذين يحضرون على عجل وطبعا مخافة السيد الرئيس وليس خدمة للصالح العام وعندما تثير الموضوع مع احدهم جوابه الآني والميكانيكي هو" دبا نشوفوك ملين تقدام في السربيس" . شاءت الأقدار أن أخالط فئة "انتهازية" "متملقة " كل ست سنوات ترتدي زيا حزبيا معينا يتماشى ولون الرئيس الجديد ولا تخجل في أن " تقلب" بسرعة البرق على من كانوا إلى وقت قريب أولياء نعمتها وأسيادها يأتمرون بأوامرها وينتهون بنواهيها وينجزون التقارير المفصلة لها عن تحركات المناوئين "مساخيط الرئيس" لتكون النتيجة " الحريك" بمعناه السلبي المقيت وليس بمعناه البطولي الذي يغامر صاحبه من اجل تامين لقمة عيش بكرامة وعزة نفس.وبطيعة الحال لا مجال للاستغراب عندما يكون في المكتب ثلاثة موظفين منكبين على مناقشة موضوع معين وبمجرد انصراف احدهم يتحول في رمشة عين إلى موضوع للتنكيت والنميمة والسخرية . شاءت الأقدار، وأنا أتمعن في سراديب الجماعة أن أكتشف مفارقة عجيبة مفادها أنني قد أستفيد من " الشاوش المرتب في السلاليم الدنيا بما يفيدني في مشواري العملي والوظيفي في حين هناك "رؤوسا" لا تملك وسط هذا الفضاء إلا التبجح برتبتها الوظيفية وأحيانا كثيرة يقوم هذا العون باكتشاف الحل وإبداء الرأي الصواب وأنا الذي اعتقدت أن أولئك الموظفين يحتكرون المعلومة قبل أن اكتشف حقيقة صادمة مفادها أن فاقد الشيء لا يعطيه ومرد تلك العجرفة بالأساس هي الرغبة في تسييج وحماية عورتهم من أن تكتشف لزملاء المهنة . شاءت الأقدار أن ألج فضاء يقبع فيه جزء تابع لوزارة الداخلية بعدده وعتاده وكل شيء تحت بصره ومسمعه حتى وجدت الفضاء ملئ حرسا شديدا وأعينا... ولسان حالهم يقول "غير ديرها زوينة توصل توصل".