قبل أيام فضلت استعمال سيارة طاكسي للتنقل داخل المدينة، بدلا عن سيارتي الشخصية، وأنا في طريقي مرة إلى مركز المدينة فاجأتني لحظتها، فورة الشارع وزحمته غير العادية، حيث كانت حركة المارة الغير الآبهة بقوانين المرور وعلاماته (قف ولا الضوء الأحمر)، مربكة إلى درجة الإزعاج.. وفي لحظة غضب حدثت ساءلت نفسي بصوت مسموع: (يا إلاهي ماذا أصاب هذا المجتمع؟ حتى المدونة لم تستطع تغير شيء من سلوكياتنا البدوية الرعوية؟). لم أنتظر الجواب طويلا، فقد جاء سريعا وسديدا من سائق الطاكسي الذي حسب أن حديثي موجه إليه، وكعادة ساقي سيارة الأجرة، وجدها فرصة سانحة ليسهب في الحديث عن هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر الاجتماعية التي يعاني منها الإنسان المغربي، وخلص من تحليله الوجيه إلى أن الأحزاب والنقابات هي المسؤول الأول والأخير في انتشار جزء كبير من هذه السلوكيات وتثبيتها في الشعب، لأن أكثريتها تخلت عن دورها الأساسي الذي هو تأطير المواطن، لإخراجه والمجتمع من دائرة التخلف المفروض ظلما، وتغيير أنماط تفكيره الجامد وسلوكياته الفاسدة، والتي يعول فيها على الناشطين الحزبيين والنقابيين الشرفاء الذين لا يمكن الاستغناء عنهم أو تجاوزهم لأنهم ببساطة أساس أية انطلاقة نهضوية تنموية في أي مجتمع وتحرره وتحضيره وترقيته، وعياً وأخلاقاً باتجاه سلوكيات راقية صالحة يتساوى فيها الناس جميعهم. حركت رأسي مؤيدا رأي السائق كان يرمقني من خلال مرآة سيارته بعينين يشع منهما الذكاء والفطنة، وكأنه ينتظر مني ردا على لومه الأحزاب والنقابات على تقاعسها عن دورها الذي وجدت من أجله، قائلا: أنا اعرفك يا أستاذ لقد كنت ناشطا حزبيا ونقابيا... ولكنك، كما غيرك كثير، تخليتم عن دوركم في تأطير المواطنين، والذي هو واجب وطني، ألست من بين المسؤولين عما يحدث وتتساءل عنه الآن في استغراب البُرآء؟؟ لم استغرب جرأة السائق اللطيفة، ولبقاته البارعة، التي لم تدع لي بد من الإجابة عن تساؤلاته الذكية وفضوله العارم الذي لاشك يفرضه نوعية عمله والي يبحث عن إشباعه من خلال محادثت زبائنه في الكثير من المواضيع على اختلاف مضامينها، طيلة أوقات عمله اليومي. ورغم قلة تتوافر دراسات كثيرة ومضبوطة عن الأحزاب والنقابات المغربية وعن المشاركة السياسة التي تتيح لنا النظرة الفاحصة على مدى عزوف المواطنين، أو انغماسهم في العمل السياسي الحزبي والنقابي والذي يعرفه الإختصاصيون بأنه: (نضال مختلف طبقات المواطنين، من خلال وسائل ووسائط مشروعة متعددة، لاستعادة الحق في تقرير مصير مجتمع هم الصناع الحقيقيون لثرواته)، إرتأيت،بل أنه من الواجب علي وقبل الإسهاب في تحليل تسؤلات محاوري وتفصيل الإيجابات حولها، أن سرد مقدمة تاريخية، ولو مختصرة، عن التجربة الحزبية المغربية، والتي أشفق على السائق المسكين، ومن خلاله على القارئ الكريم، من تعاست مشهدها الذي لاشك سيشعران معه بشيء الضيق النفسي والإرهاق العقلي والجسدي، الذي يصيبني كلما حاولت سرد أطواره أو الغوص في تنظيراته -حزبية كانت أو نقابية- التي ينتجها قادته وحلفاؤهم من الطبقات الثرية (الرأسماليون وممثلوهم وكبار رجال الدولة بكل أجهزتها والشرائح العليا من الطبقات الوسطى) لتسيير والتحكم في القضايا، بالملكية أو بالسيطرة، التي تتصل بحياتنا. إلا وشعرت بالغربة والارتباك، لأنني لا أجد لتلك النظريات صلة بواقع الغالبية العظمى من المواطنين البسطاء الذين يعيشون واقعا ليس له علاقة بما يحاصر الفعاليات السياسية والقيادات النقابية المغربية، التي لا هم لها إلا اختزال مفهوم المشاركة السياسية في العمليات الانتخابية التي تعمل المستحيل لتشجيع المواطنين على التصويت لصالحهم فيها، وقصر كل نشاطاتها على القضاء على المثقفين وتطهير صفوف أحزابهم ونقاباتهم من كل ذوي التفكير التنويري المنفتح-رغم من هامشيتهم في التسيير والحكم في المجتمع عامة- الذين كانوا ولازالوا مصدر قلق وتهديد لتسلط القيادات الحزبية الشائخة وطمع زبانيتهم الذين لا تستطيعون العيش والاستمرار إلا بمحيط الجهل والتخلف الذي جعل الأحزاب تشهد صعوداً متسارعا لحواشي القيادات والجهات الحاكمة التقليدية، وأصحاب رأس المال الكبير، وحواريهم، والانتهازيين وغيرهم كثير من الفئات المحظوظة، وليس من أبناء الشعب والمثقفين من ذوي المواقع الاعتيادية والتي لا تخول لأصحابها الكثير من النفوذ، حتى أنك تشعر أحيانا أنك أمام منظرين حزبيين ونقابيين غرباء لا يعيشون معنا على هذه الأرض، ما يشكل بيئة مثالية لتفشى الفساد والافساد السياسي بالبلاد والمرتبط ارتباطاً وثيقاً بسوء استغلال السلطة، التي من الواضح أن منبعها هي مجاميع قليلة تمسك بمكامن القوى والنفوذ من بعض أصحاب السلطات والمواقع المهمة المتحكمة في الغالبية العظمى من أبناء الشعب. ولا شك أنك تعرف أيها المحترم، أن الأحزاب والنقابات مكون أساسي في المنظومة المجتمعية، ولا يختلف أحد على الحاجة إليهما دائماً وأبداً، وأنه من المسلمات أن الغاية منهما هي السعي بجميع الوسائل المشروعة لبناء مجتمع على أساس من الديمقراطية الصحيحة تسود فيها الطمانينة الاجتماعية والعدل والرخاء والحرية والسلم وتأمين الحقوق التي اقرتها الأممالمتحدة، وأنها(الأحزاب والنقابات) كالناشطين السياسيين والنقابييين فئات وجماعات، فيهم الصالح والطالح، وبنيهم التقي والشقي، ولكن أغلبهم إما تحت سطوة الظروف الاجتماعية، و هيمنة القهر السياسي والاقتصادي، أو في حضانة سلطة حانية بكرمها وعطاءاتها الحاتمية، وهذا الصنف، قلما ما ينحاز إلى الشعب، وإما ضحايا لسياسات بالية وعقليات قيادات شائخة متحجرة متعالية عن القواعد بعيدة عنها، تضبط قربها وتقربها منها بمواعيد الانتخابات التي تنزل أثناءها لدفع المواطنين للتصويت لصالحها، وبعدها تعود إلى أبراجها العاجية، عفوا الزمردية لتتمتع بما تفي به الانتخابات من مغانم وريع على حساب المصلحة العامة. ومن الطبيعي أنه حين يزداد التباعد بين القاعدة والقمة، ولا تتحقق تطلع الناس في تغيير ما حولهم، يشتد سخطهم ويثورون بكل الطرق، حتى بمقاطعة العمل السياسي، الشيء الذي يرغب فيه زبانية الأحزاب وسماسرتها ويشجعون عليه بتخليهم عن تأطير المواطنين والإكتفاء بسياسة القبضة الحديدية على كل دواليب التسيير الحزبي والنقابي الذي يدجن المنخرطين ويحبس أحلامهم ويكبت نواياهم ويسلبهم الشجاعة والعزة والكرامة ويحولهم الى مسخ منزوع الإرادة والتفكير والوعي والثقافة مشوه الانتماء والولاء والوطنية، كنتيجة تأطير سيء متعمد من طرف إطارات وقادة مجوفين منزوعي الفهم والوعي والإرادة، لا تفكر بعقولها المجذوبة الخاوية إلا في ديمومة مصالحها الشخصية، وتنمية ثرواتها باستنزاف الآخر من كل مافيه من إرادة وكرامة وتوجيه مساراته نحو خدمة ثنائية عقدت زواجا تكافليا تكامليا متواطئا بين المقدس الذي يُشرع، والسلطوي الذي يحكم وينفذ ويسلب، دون الخضوع لأي رقابة أو مساءلة، ما يفرز سلبيات أخطر من العزوف عن الانتخابات، وإلتى تعداها إلى الزهد في الإهتمام حتى بما هو في مصلحتهم ومصلحة الوطن. الأمر الذي يستدعي وقفة حكيمة وعاقلة لمراجعة الأحزاب لحساباتها بشكل أكثر جدية وصدقية من أجل القيام بتغيير جذري وسريع شكلا ومضمونا للخروج مما هي فيه من اختلالات كبيرة لا يمكن أن تحقق أية ديموقراطية حزبية أو تؤمن أيىة عدالة إجتماعية يصر القادة على رفضها، وعدم تطبيقها بين المنخرطين الذين لن يروها أبدا تنتشر بينهم رغم تعلقهم بها، فهي لا تتحقق بمجرد تلاوة أناشيد الأحزاب أو تنظيف مقراتها وطلاء جدرانها..
وقلوب الكثير من قادتها متشبعة بالمفاهيم الخاطئة عن العدالة والديموقراطية الحزبية، التي يضنون أنها ضد مصالحهم الشخصية والانتهازية الحزبية التي أصبحت نمط تفكير سياسي خاص تجاه الأحداث والمواقف والقضايا التي تشكل منعطفات مهمة في حياة الناس سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي والمعيشي، والتي لم ولا تتخذ تجاهها جل هذه الأحزاب، مع الأسف، سوى نشاطات عابرة لا تستمر سوى فترة بسيطة ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه، وكأن شيئاً لم يكن، كما يمكن لأي متتبع عادي لأمور الأحزاب في بلادنا أن يلاحظ ذلك بسهولة في القضاية التي فرضت فيها الأحزاب نفسها على الأحداث ولم تكن صانعة لها، كالتظاهرات الجماهرية المناهضة للغلاء وحركة 20 مارس،على سبيل المثال لا الحصر.. ما جعل من جل أحزابنا ونقاباتها، مؤسسات ورقية هشة، لا أساس اجتماعي لها، متشابهة حد القرف، لا فرق بين يمينها أو يسارها وحتى وسطها، إلا من بعض الفوارق الإنشائية في برامج لا علاقة لها بأي مشروع نهضوي ينمي المجتمع الذي كانت جماهيره في الماضي عندما كانت تدعوهم الأحزاب إلى تجمعاتها، يحجون إليها من كل صوب وحدب ومن كل فج عميق.. الفلاح والصانع والمعلم والأستاذ والمهندس والطبيب عن طواعية، لأنهم ببساطة كانوا يؤمنون أنهم سيكونون على موعد مع ساعات من التأطير والإخبار، فالفارق واضح في الإنجاز والعمل على أرض الواقع، بخلاف اليوم فلا خطيب ولا صوت حقيقي للأغلبية وللمعارضة، ولا طعم لأي شيء غير الفظاعات اللغوية حاضرة بقوة في كل الميادين رغم محاولة تغليفا بتصريحات القادة عن أن المناضلين أو ''الشعب'' هو مصدر سلطات التسيير جميعها، أو بأقوالها وعناوين البراقة للإطارات النقابية بأن كل منخرط محترم في نفسه ورأيه وهكذا في حين تبقى حقيقة تلك التصريحات والعناوين مجرد عناوين وعبارات للمتاجرة، لا أثر لها على أرض الواقع ولا تغني المتحزب في شيء لأنها لا تعدو كونها مجرد أقوال فارغة المحتوى وليس لقائليها صلاحية أو قدرة على تطبيقها أو إحداث تغيير حقيقي يؤدي إلى معالجة الأزمات القائمة التي تتراكم عاما بعد عام. أما عن استقالتي اعلم بارك الله فيك، أني لم أستقل من صفوف الحزب الذي انخرطت في صفوفه صغيرا، وانضممت إلى خلاياه شابا يافعا، وناضلت مع شرفائه من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية،( أو هكذا خيل لي، أو بالأصح أوحي لي بذلك المفهوم النبيل للنضال) قاعديّا وبعدها كمسؤول في وأحد من فروعه بأحد الأحياء الشعبية (فاس الجديد) المهمش طبعا -وفي تلك المسؤولية وذلك الحي كلام كثير أرجؤه إلى وقت آخر حتى أطيل اكثر- والذي عرفت فيه مناضلين شرفاء ما زلت أعتزّ بمعرفتهم ورفقتهم، وبما خضت معهم، في دواليبه، من تجارب أثرتني وعززت موقعي في الحزب وبين الساكنة التي أفتخر بانتسابي إليه وإنتمائي إليهم. ولكنّي وبعميق الأسف، وبالغ الألم، اضطررت لتوقيف نشاطي الحزبي، وقررت الابتعاد عن العمل في صفوفه، بعد أن انقشعت غشاوة مخدر النضال الوهمي من اجل الديمقراطية والمساواة، داخل الحزب وخارجه، -لأنها لم تكن كذلك كما أسلفت في مقدمة المقالة- واستفقت من غيبوبة الوفاء للمبادء الحزبية والتفاني في تبني أدبياتها والإخلاص في تطبيقها، والتي عشت بسببها ثراعا مريرا بين التعلق بها والدفاع عنها، وبين قناعتي الشخصيّة التي تمنعني من ذلك بسبب بعض من تلك الأدبيات والمواقف المهترئة، القابلة بالديكتاتورية والمؤيدة للنظم الشمولية، المختزلة لمفهوم المشاركة السياسية والمقلصة لها (لتصبح محدودة فيما تضعه السلطة الديكتاتورية من مجالات للعمل السياسي الضيق المحصور سلفا كالأنشطة الانتخابات البرلمانية والمحلية، وكل ما يتبعها من تجاوزات وخروقات واستعمال للمال وشراء الأصوات وتأثيراتها المخالفة لأخلاقيات العمل الحزبي ومهنيته ومبادئه. ما جعلني أضع مسافة بيني وبين كل عمل حزبي أو نقابي مشبوه، لا ينتصر للجماهير الشعبية. وإني، وبقدر ما ملأني قرار الابتعاد عن الحزبية والذي أحتفظ بالكثير من مبرّراته وأسبابه لنفسي، عدى ما كشفت من بعضها، بالانشراح والراحة، بقدر ما عمرني نفس القرار بالحسرة والألم لأنه أبعدني عن رفاق درب النضال الخلّص، الصادقين الذين تقاسمت معهم نفس الأحلام، ونفس الأفكار، والذين سأضل وفيا متمسّكا بصداقات كلّ المناضلين الذين عملت معهم على تأسيس الأعراف الحزبية والنقابية الراقية والتي كان هدفها الأول الارتقاء بالإنسان والوطن وعياً وأخلاقاً وسلوكاً، والذي لا يتأتى إلا بتغيير السلوك السياسي والثقافي للقادة ومسيري الأحزاب، وبناء نظام حزبي يستطيع أن يكون قوة جاذبة ومحفزة للطاقات، وليس قوة منفرة أو ضاغطة أو محبطة تفتقد إلى الجدية التي تؤدي إلى تراكم الإحباطات، وقد كان كل ذلك يتم في حميمية وأخوية دون استعلاء من أحد أو إستناكف أو غضاضة، حيث كنا نأخذ برأي بعضنا من دون أو استكثار على غيرنا حق إبداء الرأي، وأخاص هنا بالذكر الصديق المرحوم محمد لخصاصي صخرة النضال النقابي الذي لم تنحن هامته أبدا أمام أعاصير مؤامرات التمييز والعنصرية ولم يطأطأ رأسا لاستعلاء المتقيودين (أن صح التعبير) الحزبيين وغضاضة زبانيتهم النقابيين، إلى أن لقي ربه رحمة الله عليه. أما عن مسؤولية التأطير فلا أخفيك سرا إذا قلت لك، أن ذلك الفعل/السلوك، لم يتوقف قظ، وأن التجربة لم تنته، وأن ما آمنّت به وما حلمت به مع ثلة من رفاق النضال الحزبي والنقابي، من حرية وعدالة مساواة، لازالت قائمة واننا نسير في طريقنا دون أن نتلفت الا قليلا الى الذين لا يرغبون بأن تتحقق دعوة العدالة و الحرية والمساواة داخل أحزاب ونقابات... ويعملون على أن تبقى مثل هذه التوجهات الخاطئة سائدة فيها، تدعمها قوى خفية مستخدمة كل ما لديها من نفوذ وذرائع ومبررات واهية. وأؤكّد أني وإن بعدت عن المؤسسة الحزبية، فما زلت متشبّثا ببعض تعاليمها وقيمها الوطنية والنضالية القيمة، أطبقها من موقعي كناشط حقوقي وجمعوي وإعلامي حرّ ومستقلّ، أدافع عمّا أعتقد به من قناعات، وما أتمناه لهذا الشعب الذي آمنت به وأنكره بعض المشبوهين من أبنائه، وسأضل متمسّكا به إلى أن تتغير الصورة الحزبية الحالية وتصبح قوة جذب واستقطاب وتحفيز للطاقات الخلاقة، ولا تبقى مؤسسات تنفير واداة ضغط و إحابط واستخفاف بالعقول والمصائر الشيء الذي ليس من السهل تحقيقه ما لم تتوافر رؤية سياسية واضحة تعمل على استيعاب الناس في النظام العام بدون تفرقة أو انتهازية.