لا شك أن الأحداث السياسية باختياراتها تنعكس حتما إيجابا أم سلبا على جل المجالات (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...) باستقلاليتها نسبيا عن الواقع بتأثيرها على مجرى الأحداث لتغيير هذا الواقع السياسي كما هو الشأن بالنسبة للحدث الذي قلب الحياة اليومية البشرية رأسا على عقب بسبب جائحة كورونا. لقد فرض هذا الوباء تغيير الخطاب السياسي بشكل شبه جذري من إيديولوجيا الرأسمال المتوحش بتقييم الشعوب المضطهدة ماليا بسبب الجشع والاحتكار خاصة بالمعسكر الغربي للدول العظمى إلى إيديولوجيا الاقتصاد الصحي كما تتبناه حاليا الصين الشعبية في إطار ما سمي بخريطة " الطريق و الحزام " في آخر تجمع للحزب الشيوعي الصيني كتوجه جديد لسياسة ثاني اقتصاد عالمي كحتمية تاريخية معاصرة. هذا الواقع السياسي الجديد يستدعي تحويل جل القطاعات لتتأقلم بشكل أوتوماتيكي مع ما تفرضه الوقاية الصحية للإنسان من عناية فائقة عبر المعمور و التي شكلت الهاجس اليومي للحقل الإعلامي بشتى منابره المرئية والمكتوبة والمسموعة وخاصة على مستوى منصات التواصل الاجتماعي. هل نحن بصدد مرحلة تستدعي لا محالة إعادة الاعتبار الوجودي للإنسان قبل المال بفضل الجائحة ؟: إن هذه الأخيرة أرغمت و ألزمت الحكومات و المجتمعات بالهرولة نحو إنقاذ الأرواح دون استثناء أي كان أو أي انتقائية حيث يعلن فيروس كورونا ديموقراطيته على الجميع في بقاع العالم. أمام هذا الواقع المر بدأنا نشهد دولا تحاول قدر الإمكان إنقاذ اقتصادها من السكتة القلبية في اتجاه موحد يرتبط بالصناعة الصحية (الكمامات، المعقمات، أجهزة التنفس الاصطناعي...) و بالتالي نجد أنفسنا أمام سيطرة مفهوم الاقتصاد الصحي على مفهوم الاقتصاد المالي لتفادي الأسوأ و الحفاظ قدر الإمكان على الحياة و في مقدمتها الأطر الطبية التي هي الضامن الأول لاستمرار الحياة بإيقاف سلسلة العدوى للوباء لتفادي مقومات الحياة الإنسانية في أدناها. إذن, نحن أمام منطق جديد يطغى عليه مفهوم الصحة أولا وأخيرا، والذي سيكون له انعكاس شمولي بمنطق العولمة كمحرك أساسي للدورة الاقتصادية قد يفرز لنا دولا أو تحالفات دولية جديدة تقود اقتصاد العالم الصحي الجديد حاليا في ارتباطه بالمجالات الأخرى كقيمة مضافة، هذا التوجه الأخير و الذي بدأت تبرز معالمه من خلال التسارع للدول التي تمتلك بنية تحتية مؤهلة لمختبرات البحث العلمي الطبي لإيجاد لقاح ملائم للعلاج من الوباء قد يذر أموالا طائلة تعوض ما كبدته الجائحة من خسارات اقتصادية يصعب التعافي منها ربما لسنوات. في هذا الصدد نتساءل عن مدى مواجهة الدول المستضعفة لمصيرها و حيث لا تمتلك أدنى شروط التأهيل بسبب الحروب و الكوارث الطبيعية و الاختيارات السياسية الدولية التي أركنتها إلى زاوية الجهل و التخلف بإشراف مؤسسات مالية دولية توهم تلك الدول المستضعفة بمفاهيم الحماية والمساعدة الاجتماعية و تأهيل مواردها البشرية...علما أن تواجدها بهذه البلدان ما هو إلا استمرارية لنهب ثرواتها الطبيعية و تفقيرها إلى أقصى الحدود حتى لا تصبح يوما المنافس الشرس لها. وهم أخذ شكلا آخر حتى داخل الاتحاد الأوربي بعد إقفال الحدود والذي برزت إرهاصاته الأولية مع التفكير لبريطانيا الخروج من الاتحاد الأوربي أي ما اصطلح عليه بالبركسيت، هذه الأخيرة التي وجدت نفسها تعوض بمجهوداتها و إنتاجيتها ضعف و هشاشة بعض بلدان الاتحاد الأوربي كالبرتغال و اليونان...و الذين لا يحققون باقتصاداتهم نوعا من التكافؤ كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا و ألمانيا اللتان تتحملان ثقل الفاتورة بمعية بريطانيا التي وجدت نفسها تتشبث بوهم اتحاد أوروبي قوي قد يقود مستقبلا الاقتصاد العالمي عوض سيطرة الولاياتالمتحدةالأمريكية على الرأسمال الدولي، وبالتالي لم يبقى لها سوى الإعلان عن استقلالها من الاتحاد الأوروبي بمفاوضات عسيرة ذات تكلفة باهظة، أما بالنسبة لإيطاليا فوهمها تولد من خلال الصدمة وحيث وجدت نفسها معزولة أمام انهيار منظومتها الصحية في لحظة كورونا، و ما كان رد فعلها إلا بالسخط و التذمر بسبب جحود الاتحاد الأوربي الذي لم يكلف نفسه أي عناء لمساعدتها، فكان الرد واضحا باستبدال علم الاتحاد الأوربي بالعلم الايطالي كمؤشر لاستعدادها لمغادرة الاتحاد و الذي لا يمكن أن تعول عليه لأنه أصبح عاجزا عن تجسيد شراكة قوية فعلية تجعل التضامن و التعاضد داخل المجموعة ركنا مقدسا لا يجب التغاضي عنه. من خلال هذه الأوضاع يجب أن نضع أنفسنا في المحك أمام ما يجمعنا من اتفاقيات و شراكات تظهر و كأنها في خبر كان بالكساد الاقتصادي الذي ساد العالم و بإغلاق الحدود للحد من تفشي الوباء و تكسير سلسلة العدوى و ما تلاها من خسائر اقتصادية بالملايير قادت إلى التفكير في إستراتيجية وطنية لتدبير اللحظة بلجنة يقظة بتعليمات ملكية سامية حتى نتفادى الأسوأ، هذه الإستراتيجية استدعت و بشكل فوري تأهيل البنية التحتية للقطاع الصحي و تجنيد الأطر الصحية الطبية و شبه الطبية والتمريضية و الإدارية كحتمية فرضتها الظرفية ليس في المغرب فقط بل في العالم حيث أملت علينا محليا التوجه نحو صناعة طبية لتفادي ما حصل بإسبانيا و فرنسا و أمريكا و البرازيل...من خسائر بشرية بسبب الجائحة، كل هذا يستدعي التفاؤل حول مدى حدود صناعتنا في المجالات الأخرى و انعكاساتها الايجابية اجتماعيا لتعويض ما تحمله صندوق كورونا من الآثار السلبية على المستوى المعيشي للطبقات الهشة و الفقيرة لضمان حقوقها الطبيعية و الدستورية. على ضوء ما سبق ذكره من إيجابيات بفضل جائحة كورونا نجد أنفسنا أمام توافق وطني شامل على سياسة عمومية غير مسبوقة في وطننا شعارها التماسك و التضامن والتضحية ويحتم علينا الاستمرار في تضافر الجهود أكثر لسن سياسات مستقبلية تتميز بدرجة الصفر الإيديولوجي الذي يستبعد أي تخطيط استراتيجي للمصالح الشخصية و الضيقة على حساب المصلحة العامة حتى لا نسقط في هدر الزمن السياسي بصراعات و مناوشات لن تزيدنا إلا احتقانا و احتجاجا بالشوارع و تعطيل عجلة التطور و التقدم، صراعات يجب تجاوزها بالذكاء الجماعي و الحكمة و الحكامة السياسة خاصة و نحن مقبلين على مرحلة يلوح في أفقها نظام عالمي جديد يضع في الواجهة صراع العملاقين بين الولاياتالمتحدةالأمريكية و الصين الشعبية على قيادة العالم، صراع يتجسد من خلال تبادل الاتهامات حول أصل الفيروس و تداعياته على الاقتصاد الدولي و ما خلفه من ضحايا بشرية و كساد اقتصادي. التاريخ يعيد نفسه بإحياء قطبين جديدين يستثني الاتحاد السوفيتي (روسيا حاليا) قد يؤسس لحرب باردة بشكل آخر كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية إلى حدود إسقاط جدار برلين لتوحيد المعسكرين الشرقي و الغربي و الحديث عن سياسة بيريسترويكا وغلاسنوست بقيادة الرئيس جورباتشوف اتفاقية التبادل الحر باسم مفهوم العولمة ( اتفاقية الغات 1994) و التي أساس أركانها هو التبادل الحر بين الدول برفع القيود الجمركية على السلع باستثناء بعض المنتجات مما أشعل الحرب بعدم التكافؤ بين الدول التي اقتصاداتها لا تضاهي اقتصاد العملاقين أمريكا و الصين و اللذين بدورهما لا زالا يعيشان هذا الصراع إلى يومنا هذا حيث لا زال الاقتصاد الدولي لم يتعافى كليا من مخلفات الأزمة الاقتصادية العالمية التي انطلقت إرهاصاتها سنت 2007 و هي تعيش الانتكاسة حاليا مع وباء كورونا و ما يعتريه من حقائق و مغالطات يومية في ظل كساد اقتصادي غير مسبوق، كما قد تبرز سيناريوهات سياسية أخرى تفرض خريطة بمفهوم تجاذب الأقطاب المتعددة حسب كل قارة خاصة وأن الولاياتالمتحدةالأمريكية أصبحت تتملص التزاماتها الدولية، فأين نحن من هذا الصراع السياسي و الاقتصادي وأي موقع أو رتبة يمكن أن نحتلها للتخلص من التبعية و تحقيق الاستقلالية، كخيار استراتيجي لا محيد عنه مستقبلا، يجعلنا نتفاوض من موقع قوة على مصالحنا بمواردنا ووسائلنا الذاتية لتجاوز مساومات المؤسسات النقدية الدولية و تفادي كل هشاشة ؟. رهان – أكيد – ليس بالهين و ليس مستحيلا تحقيقه إذا عزمنا على رقمنة اقتصادنا في شموليته باقتحام الذكاء الصناعي من خلال جامعاتنا و معاهدنا و مدارسنا بأوراشها و مختبراتها العلمية و التقنية و الهندسية في نسق مندمج متكامل تلعب فيه المقاولة المواطنة أدوارها الأساسية من تمويل و تأطير و تتبع و توجيه و تقييم لمجالات البحث العلمي و ملائمتها لمعايير متطلبات الاستهلاك الداخلي و الخارجي حتى نتمكن بكل نجاعة من التطور و التقدم المنشودين بعد كورونا.