مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث صحيح أنه بفضل ما حصل من تطور علمي وتقني، تجاوز الانسان بعض آفات طبيعة طاردته لزمن عبر حلقات كما بالنسبة لبعض الأوبئة، لكن بأس من الانصات اليها تاريخياً من حين لآخر تأملاً فيما كانت عليه من آثار على أكثر من صعيد، وهو ما قد يساعد فضلاً عما هناك من عِبَر على فهم معطيات عدة وتحولات. في هذا الاطار انفتاحاً على زمن اجتماعي مغربي أسست له أبحاث أكاديمية منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وحول ما عصف ببلادنا في زمن الحماية من آفات طبيعية، ارتأينا اطلالة على سنوات نهاية ثلاثينات القرن الماضي باعتبارها واحدة من ثلاث محطات قاسية طبعت هذه الفترة وقد جمعت بين جفاف ومجاعة ووباء معاً. ما جعل الحكومة الفرنسية آنذاك تدخل على الخط عبر ما قدم في مجالسها من تقارير، تعد مصدر معلومة تاريخية هامة رغم ما قد يسجله الباحث حولها. مثلما جاء فيها مثلاً من اشارات قالت أن انشغال فرنسا الرئيسي خلال هذه الفترة، كان هو انقاد المغاربة من أخطر ما ظهر من أوبئة انتشرت بجهات البلاد ومكافحة مجاعة عبر ما اتخذ من تدابير. وكان مغرب زمن الحماية ضحية وضع مناخي بخاصية تقلب وعدم انتظام لعدة مرات، من خلال ما عصف بالمنطقة السلطانية الخاضعة للاحتلال الفرنسي تحديداً على مستوى الغرب والشرق 1936، من جفاف كبير كان بأثر على وضع البلاد خاصة البوادي بسبب ضعف محاصيل الزراعة. ما تعقد أكثر لمَّا شمل جنوب البلاد لاحقاً خلال سنة موالية، بقدر ما طبعها من قلة أمطار أثرت على مياه أودية بقدر ما طبع توزيعها من تباين مجالي. بل عرفت شهور هذه السنة الأربعة الأولى ارتفاعاً قياسياً في درجة حرارة، زادت من خطورة وضع البلاد المناخي نظراً لِما حصل من قلة رطوبة وارتفاع في نسبة تبخر المياه. وعليه، وبسبب موسم زراعي صعب بات الأهالي وجهاً لوجه مع خطر مجاعة ظهرت معالمها وتجلياتها جنوباً حيث مراكش والشاوية وغيرها، فكانت وراء ما حدث من هجرات جماعية نحو مدن شمال المنطقة السلطانية اتسع معها وعاء فئة عمالية فقيرة معزولة عن مناطقها وأوساطها الثقافية، فضلاً عن منافسة عمال أوربيين بسبب مهاجرين باحثين عن عمل قبلوا بأجور هزيلة لشدة ما كانوا عليه من فقر مدقع. ظروف صعبة كانت بآثار صحية على أهالي كانوا أقل مقاومة للأوبئة، لعل من جملة ما ظهر منها على عهد الحماية نجد التيفوس الذي تبين إثر تجارب منذ 1913- 1914 و 1920- 1921 وخاصة 1927- 1928، أنه يأتي بعد كل فترة جفاف بالمغرب مع نسبة اصابات تعرف ارتفاعاً بمنحى تزايدي عادة منذ شهر يناير. وبسبب ما طبع عام 1937 من جفاف شديد ورد أن سلطات الحماية كانت أمام امتحان جديد يخص مكافحة آفتين معاً، مجاعة عصفت بشرق المنطقة السلطانية وجنوبها تبين أنه لابد من سبل تدخل وتدابير لتأمين عيش كلي أو مرحلي لحوالي مليون ونصف من الأهالي الى غاية سنة 1938، ثم وباء تيفوس مخيف اتسع مجال انتشاره وجعل مصلحة الوقاية في حالة تأهب مع حملات تلقيح بمختلف جهات البلاد. قد حددت سلطات الحماية بحسب تقاريرها مدخلين أساسيين لتدبير الوضع، أولاً توفير مواد غذائية لمن كان يعاني من المجاعة من الأهالي لوقف هجرتهم نحو مدن شمال المنطقة السلطانية مع محاربة تيفوس كان يهدد حياتهم اعتماداً على مبادرات محلية وامكانات خاصة. وثانياً اطلاع الحكومة الفرنسية على طبيعة الوضع موازاة مع ما هناك من اجراءات استعجالية، من أجل تدخلها على أساس أنه يتجاوز ما هو كائن من موارد في المنطقة الفرنسية بالمغرب. فيما يتعلق بتدابير مكافحة مجاعة هذه الفترة كانت أولى خطوات سلطات الحماية توزيع مواد غذائية مستعجلة، تم تكليف ضباط الشؤون الأهلية والمراقبين المدنيين بعملياتها على مستوى مراكز حضرية كبرى. وحول حاجيات ساكنة معزولة بدواوير وقرى بعيدة من مواد غذائية، تم اعتماد وسطاء من ممثلي أسر كانوا يأتون لأخذ نصيبهم من أقرب مركز اداري لهم مرة كل أسبوع. علماً أن ما خصص من مساعدات غذائية تقرر تقديمه لمن هم غير قادرين على العمل من الأهالي(نساء، أطفال، مسنين، مرضى ..)، ولحسن تدبير العملية وتنزيلها تم استدعاء رؤساء الجهات من أجل اطلاعهم على خطط العمل عبر خطوات. يذكر أنه في اطار تدابير محاربة مجاعة مغرب فترة نهاية ثلاثينات القرن الماضي، تم اعتماد وسائل نقل أقل تكلفة لنقل المواد الغذائية الى مناطق بعيدة ومعزولة، وفضلاً عن قرار منع تصدير الشعير والذرة تم اقتناء كمية هامة من الأرز بلغت سبعين ألف قنطار وخمسة عشرة ألف قنطار من الشعير. وتم اختيار مادة الأرز عوض الشعير لمكافحة مجاعة أهالي مناطق بعيدة، على أساس أن قيمة الأول الغذائية أقوى من الثاني، مع ما تطلب الأمر من تشجيع للأهالي ممن كانوا يجهلون هذه المادة الغذائية بحكم ثقافتهم للاقبال عليها بطبخها والاستفادة منها. ولعل من أهداف توفير الغذاء الذي توجه لمناطق قروية بعيدة كانت تعاني من المجاعة، كان هو وقف تدفق هجرتهم الى شمال المنطقة السلطانية. وفي هذا الاطار أحدثت سلطات الحماية الفرنسية نقاط رقابة محددة عبر خطوط خاصة استهدفت بها ارجاع المهاجرين لأماكنهم الأصلية، نقاط شملت جنوب وشرق البلاد على مستوى مثلاً إغرم وورزازات وزاكًورة والريش وايمنتانوت وتارودانت وآيت ورير وميدلت وميسور ثم أيضاً وجدة وغيرها. مع أهمية الاشارة الى أن هذه الاجراءات كانت بدور هام، فخلال بضعة أسابيع توقفت الهجرة الى الشمال وتم ارجاع المهاجرين الى قبائلهم الأصلية بحسب ما جاء في تقارير فرنسية. وفيما يخص اجراءات سلطات الحماية للحد من وباء تيفوس مخيف ظهرت حالات اصاباته خلال شهر يناير 1937، تم اقرار حملات تلقيح بمناطق مصابة شملت أربعة آلاف وثلاثمائة شخص في منطقة قلعة السراغنة وأربعة آلاف وخمسمائة شخص بفاس. وخلال شهري أبريل وماي من نفس السنة تم اعتماد نقاط مراقبة أيضاً تخص المهاجرين المصابين بالوباء سمحت باكتشاف حالات اصابات كثيرة، ومن مناطق البلاد التي شملتها الرقابة نذكر مثلاً "سوق أربعاء القصور" التي عانت من الوباء وبالتالي هجرة أهلها باتجاه مراكش والدار البيضاء ودكالة..، وفي اطار حملات تلقيح ضد الوباء ضمن عمل مصلحة الوقاية تم تلقيح حوالي مائة وأربعين ألف شخص بالدار البيضاء وأحد عشر ألف بمنطقة فضالة، وعموما تم تلقيح حوالي مائتي ألف مواطن مغربي ضد الوباء منذ فبراير من السنة نفسها وعياً بخاصية دوريته. يذكر أن التيفوس عصف بمغاربة زمان عبر فترات متقطعة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكان آخر عهد لهم به كوباء ما تعرضوا له نهاية ثلاثينات القرن الماضي خاصة سنة 1937 (عام التيفوس)، وباء شبيه بزكام حاد مع درجة حرارة جسم مرتفعة، كذا ارتجاف وصداع وألم عضلي وطفح جلدي مميز. وكان ما انتشر من تيفوس خلال هذه السنة مخيفاً جداً، جعل القرويين من الأهالي بكيفية خاصة يهاجرون من جهة لأخرى على مسافات طويلة أملاً في العلاج، من كان يموت منهم في الطريق من شدة حمى الوباء كان يترك ابناءه بها عرضة للهلاك. يبقى أنه من شدة وقع التيفوس في مغرب نهاية ثلاثينات القرن الماضي، كانت هناك حملات تلقيح اجبارية باعتماد لقاح عرف ب"بلان" نسبة لإسم مدير معهد باستور بالرباط الذي اكتشفه، إلا أن عدم القدرة على تحمل هذا اللقاح جعلته بحوادث قاتلة في صفوف مغاربة هذه الفترة، مقابل إعفاء الأوربيين منه مما أثار استياء قوياً وغضباً في أوساط مغربية آنذاك.