مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث باستثناء ما كان بسبق وتأسيس من الأعمال العلمية كما "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب.." لمحمد الأمين البزاز و"جوائح وأوبئة عهد الموحدين" للحسين بولقطيب فضلاً عما جاء من اشارات في مصادر اخبارية تقليدية. من آفات مغرب زمان من لا تزال بإثارات جانبية في مضان دراسات حديثة، أمام الحاجة لمقاربات شافية لفهم قضايا آفات بلادنا الطبيعية، كإشكالات محورية من شأنها تحقيق تركيب وفهم أعمق لزمنها وبنياتها منذ العصر الوسيط على الأقل. طبعاً دون قفز على اسهامات علمية على قدر معبر من القيمة المضافة والتنوير، هي نتاج جهد باحثين مغاربة كانوا بفضل في إماطة اللثام عن جوانب مغمورة باخراجها من الظل، ما جعل خزانة بلادنا التاريخية بنصوص جديدة ملأت حيزاً مما كان عالقاً من أسئلة ذات علاقة. ولعل من آفات وحلقات تقلب الطبيعة في زمن المغرب الى جانب ما هناك من مجاعات وأوبئة نجد "الجراد". و"الجراد" في ذاكرة وتمثلات مغاربة الأمس ليس سوى آفة ضمن أخطر ما يترتب عن تقلب الطبيعة دورياً، فما حدث من غزو كاسح سريع ومفاجئ له في الماضي كان يجعل كل شيء من زرع وغرس في خبر كان خلال وقت وجيز، وما كان يتسبب فيه من ندرة غذاء كثيراً ما كانت تتبعه مجاعات طاحنة وأوبئة وغيرها. ودوماً كان المغرب عرضة لأسراب جراد قادمة من الصحراء حيث تماس المجال مع مناطق حارة جافة شكلت مواطن طبيعية له منذ القدم، وحتى بلاد الأندلس لم تكن تسلم من اجتياح جراد مهاجر عصف بها دورياً خلال فترة العصر الوسيط. وقد ارتبط ما حصل في الماضي من موجات جراد، بقدرة هذا الأخير على خزن بيضه استعداداً منه لاجتياحات موسمية لاحقة، حيث ورد أنه إذا رعى خلال الربيع كثيراً ما يبحث عن تربة مناسبة لإنزال بيضه في حفر بمعدل جرادة واحدة لكل مائة بيضة. وعند كل اعتدال تتم عملية تفقيس ما هو مدفون منها، ليظهر بشكل كبير قبل شد رحاله الى وجهات أخرى وهكذا. وقد اتسع تردد "الجراد" بالمغرب عبر موجات حلقية منذ النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، لدرجة ربط المصادر الاخبارية بين ما كان يحصل من جفاف وجراد وغلاء. ويسجل بحسب أبحاث حديثة أن موجات الجراد بين القرن السادس والثامن الهجري، عصفت ببلاد المغرب والأندلس أربعة عشرة مرة. وعليه، كانت تنعت بعض سنواته ب"عام الجراد" وورد أن الأمير علي بن يوسف المرابطي وجه رسالة لأهل بلاد الأندلس في شأن ما حصل من خراب بسبب الجراد جاء فيها:" إن الجراد داء عضال وإن كان كما يقال من البحر نشره، فإنما هو جمرة تحرق البلاد وتجيع العباد وشأنها الفساد.. ينزل بالوادي قد امتلأ عشباً وطلعت أزهاره شهباً، فيتركه جمرة سوداء لا يجد الضب فيها عواداً ولا النبت أراكاً ولا قتاداً." ولعل ما اكتسح المغرب والغرب الاسلامي عموماً خلال العصر الوسيط من موجات جراد، كان بأثر بليغ على كل ما هو زرع وغرس. وعليه، كانت هذه الآفة الطبيعية تحضى بعناية كبيرة من قِبل السلطة والأهالي معاً لِما كانت تخلفه من خسائر ضخمة، ومن هنا ما تشكل من تقاليد وأساليب مكافحة وأنماط تعايش. فقد ورد أن علي بن يوسف المرابطي بعث برسالة الى ابنه الأمير تاشفين وهو بالأندلس في شأن مكافحة الجراد جاء فيها: "فأخرجوا له الجم الغفير ولا يتخلف الكبير منهم ولا الصغير ولا يأوي أحد منكم الى فراشه، حتى تحرقوا أفراشه وتبيدوا آثاره." وقد ورد في علاقة بأزمات غذائية عرفها مغرب القرن التاسع عشر، أن ما كان يعصف بالبلاد من جفاف كان يجعل من بعض السنوات سنوات يبس في مختلف الجهات، بل من الدارسين من رجحوا فرضية الجراد فيما كان يحصل من خلال درجة تأثيره على بنية الانبات والمحاصيل التي أخطأها الجفاف. وجاء في نص اخباري معاصر أن الجراد في بعض سنوات أواسط القرن، كان يسد الأفق خلال فصل الربيع، بل ويأتي على النجم والشجر قبل عن يعقبه فرخه "أمرد" ليأكل كل خضراء الأرض ويستلب الأعواد من أوراقها وقشرها من لحائها، بل قيل أنه فاض في مناطق البلاد حتى دخل على الناس في بيوتهم. وقد وُصِف ما عصف بالبلاد من موجة جراد بداية تسعينات القرن التاسع عشر ب"الغزو المخيف"، كان ذلك بمنطقة فكًيكً وتافيلالت وسوس قبل امتداد أسرابه الى مراكش ثم فاس ووجدة، ليتسع نطاق غزوه صيفاً حتى سواحل البلاد بما في ذلك طنجة. وكانت أضراره على شدتها متباينة من جهة لأخرى باستثناء الجنوب الذي أتى فيه على كل شيء، فقد باتت أشجار منطقة تارودانت مثلاً عارية وأرضها يابسة بعدما كانت عبارة عن بساتين فيحاء. وفي موجة جراد ثانية متقاربة زمنياً خلال نفس الفترة، كانت بلاد تافيلالت منطلقاً لها قبل بلوغها مراكش ثم مكناسوفاس والرباط والصويرة وغيرها. وحول ما خلفته هذه الموجة من خسائر مادية ورد أن الجراد ونسله الغزير، أتى على محاصيل حبوب وبطيخ وخضروات وأشجار كروم وبقيت الأشجار عارية من أوراقها، وأن البهائم تضررت بعد أن أتى الجراد على مراعي واسعة وأحدث خسائر جسيمة في دكالة وعبدة ثم حاحا. والى جانب ما كان عليه مغرب القرن التاسع عشر من حروب وأوبئة، حصلت مجاعة قاسية بسبب الجفاف فضلاً عن موجات جراد اجتاحت عدة جهات منها بلاد قبيلة بني مطير حيث هضبة سايس وفاسومكناس، بحيث لم يسلم من الجراد حتى ما يعرف ب "توايز المخزن"، ففي رسالة موجهة للسلطان في هذا الاطار جاء : " .. فليكن في شريف علم سيدي، أما توايز العام الماضي فقد أكلها الجراد فلم يرفدوا (كذا) منها لا قليلا ولا كثيرا.. أما الحرث الذي كان بيني سيدي فإني زرعت في العام الماضي ستة أوساق وأكلها الجراد.." وفي اطار مكافحتهم لآفة الجراد كان مغاربة القرن التاسع عشر يعتمدون على تجمعات مع اعتماد أساليب بدائية، فمن جملة ما ورد في هذا الاطار من خلال نص معاصر:" انقطع نسل الجراد بالحرق والقتل لإجتماع الأيدي عليه، فإنه طبق الأرض ولولا لطف الله ما ترك شيئاً". بل من الاشارات من تحدثت عن مكافحة الجراد خلال هذه الفترة، عبر قرع الطبول وطلقات النار والصراخ، وكان السلطان الحسن الأول قد أمر سكان مراكش ونواحيها للخروج الى البادية من أجل مكافحة الجراد لمدة ثلاثة أيام. بل كانت مكافحة الجراد تحضى بتحفيز مادي ومعنوي، فعندما استفحل أمره نهاية القرن التاسع عشر شجع المخزن الناس على جمعه بالمقابل(ثلاث ريالات للقنطار الواحد) بل عين من كان يستقبل ما كان يأتي به الناس. وعلاقة بزمن الحماية عن القرن الماضي تعرضت البلاد لمجاعة قاسية ارتبطت بدورة جفاف قاس، ورد في نصوص بحث مغربية أن ما كانت عليه المواد الغذائية من نقص كبير، جعل الطبيعة وجهة بحثاً من المغاربة عن قوت لهم مما تبقى عن قحط شديد وما لم يلحقه بأثره. مقبلين على جذور نبات وما احتوته الأرض من ثمار "ترفاس" غرب البلاد جدور نبات "دوم" بمناطق جبلية، هذا فضلاً عما كانوا يعثرون عليه هنا وهناك من نبات مثل "كًرنينة" و"حميضة" و"خبيزة"، مع بعض ثمار الغابة من "خروب" و"بلوط"… بل كان المغاربة خلال هذه الظرفية المناخية القاسية، يجدون فيما كان يعصف بالبلاد من جراد موازاة مع الجفاف وجبة اتسع نطاقها، بحيث كان يجمع في أكياس قبل طبخه مع ماء وملح وقبل نشره لتجفيفه ثم أكله. سياق من المفيد الاشارة فيه الى أن ما عرفه مغاربة أمس من جراد مملح، كان من أطعمتهم وعاداتهم انسجاماً مع تقلبات سبل عيشهم، قبل أن تتراجع هذه العادة الغذائية والأطعمة تدريجياً حتى اندثارها تماماً أو تكاد، ولا يزال المغاربة بما هو رمزي وحمولة ذات صلة في ذاكرتهم، مثلما لا تزال تتقاسمه مناطق عدة من خلال نصوص غنائية شعبية عابرة للأجيال كأرشيف تقول:" آجْرادَا مالْحَا..فِينْ كُنتِي سارْحْا؟ في جْنانْ صالْحَا..آش كْليتي..آش شْربْتي؟..غيرْ تفاحْ وْنفاح..يا قاضي بومَفتاح.." مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث